Arnab Keluar dari Topi
الأرنب خارج القبعة
Genre-genre
مقدمة
عن الكتابة
كيف تصبح كاتبا فاشلا؟ ... سبع نصائح
سبعة أشياء يتعلمها الكاتب من الأطفال!
أسئلة الكتابة المرة
إخراج الأرنب من القبعة
أهمية أن نكتب يا ناس
دوائر الكتابة المغلقة المتوازية
هل غادر الشعراء من متردم؟
الشعراء من السماء ... الروائيون من الأرض
Halaman tidak diketahui
فنية الغناء في «الحمام»
أن تكون أسطورة
اقتل الرقيب
نصوص تمشي على الأرض
من قتل الشعراء؟
عزيزي القارئ ... من أنت؟
الصورة التقليدية للشاعر
لماذا يا روبن؟
كأننا روحان حللنا بدنا
عن السينما
Halaman tidak diketahui
من السينما إلى الواقع ... والعكس
ماذا يريد «كريستوفر نولان»؟
ما بعد الكارثة
هابرا كادابرا
قبل أن تأكل نفسك
أضواء المدينة المطفأة
كيف تقتل كاتبك المفضل برصاصة واحدة؟
ماتريكس أم ترومان شو؟
قتلة بالفطرة
كتابة
Halaman tidak diketahui
طوبى للغرباء
أرواح مرت من هنا
أحب الشتاء ... أكره الشتاء
أفكر في النهايات
وكلما أتعبتني قدمي قلت ها قد وصلت
ثماني نصائح للغريب حتى يعود
وهل تطيق وداعا أيها الرجل؟
دقات قلبي تحطم زجاج العناية المركزة
فمي المعطل
بيوت بيضاء للموت
Halaman tidak diketahui
عبور الزمن
كتابي الأول
العودة إلى الماضي
في معنى الزمن الجميل
سؤال الزمن
زمن التدوين الجميل
ندوة «جبريل»
نهاية الذكريات
الخوف من التكنولوجيا
في انتظار الوباء القادم
Halaman tidak diketahui
عيون مفتوحة على اتساعها
عيون ناقصة
اصمت حتى أراك
رجل طيب يموت بسرعة
مقدمة
عن الكتابة
كيف تصبح كاتبا فاشلا؟ ... سبع نصائح
سبعة أشياء يتعلمها الكاتب من الأطفال!
أسئلة الكتابة المرة
إخراج الأرنب من القبعة
Halaman tidak diketahui
أهمية أن نكتب يا ناس
دوائر الكتابة المغلقة المتوازية
هل غادر الشعراء من متردم؟
الشعراء من السماء ... الروائيون من الأرض
فنية الغناء في «الحمام»
أن تكون أسطورة
اقتل الرقيب
نصوص تمشي على الأرض
من قتل الشعراء؟
عزيزي القارئ ... من أنت؟
Halaman tidak diketahui
الصورة التقليدية للشاعر
لماذا يا روبن؟
كأننا روحان حللنا بدنا
عن السينما
من السينما إلى الواقع ... والعكس
ماذا يريد «كريستوفر نولان»؟
ما بعد الكارثة
هابرا كادابرا
قبل أن تأكل نفسك
أضواء المدينة المطفأة
Halaman tidak diketahui
كيف تقتل كاتبك المفضل برصاصة واحدة؟
ماتريكس أم ترومان شو؟
قتلة بالفطرة
كتابة
طوبى للغرباء
أرواح مرت من هنا
أحب الشتاء ... أكره الشتاء
أفكر في النهايات
وكلما أتعبتني قدمي قلت ها قد وصلت
ثماني نصائح للغريب حتى يعود
Halaman tidak diketahui
وهل تطيق وداعا أيها الرجل؟
دقات قلبي تحطم زجاج العناية المركزة
فمي المعطل
بيوت بيضاء للموت
عبور الزمن
كتابي الأول
العودة إلى الماضي
في معنى الزمن الجميل
سؤال الزمن
زمن التدوين الجميل
Halaman tidak diketahui
ندوة «جبريل»
نهاية الذكريات
الخوف من التكنولوجيا
في انتظار الوباء القادم
عيون مفتوحة على اتساعها
عيون ناقصة
اصمت حتى أراك
رجل طيب يموت بسرعة
الأرنب خارج القبعة
الأرنب خارج القبعة
Halaman tidak diketahui
تأليف
محمد أبو زيد
مقدمة
لم تحفظ ذاكرة الزمن سوى صورة واحدة للفنانة التشكيلية الفرنسية، سيرافين دو سينليس (1864-1942)، تقف بجوار إحدى لوحاتها، وقد رفعت رأسها إلى أعلى. حين طلبت منها المصورة وقتها أن تنظر تجاهها «لماذا تنظرين إلى الأعلى؟ انظري إلي، كي أستطيع أن أصورك بشكل جيد»، أصرت سيرافين على موقفها «أنا أنظر إلى الملائكة، أصدقائي، هم الذين يساعدونني دائما في الرسم ويمنحونني هذه الأشكال.»
ربما لم تقصد سيرافين «الملائكة»، ربما كانت تريد أن تتحدث عن الوحي، والإلهام، عن ذلك المكان الغامض الغريب الذي يأتي منه الفن، عن المس، عن السحر، عن لسعة النار الأولى التي تصيب المرء فيظل يشعر بها إلى الأبد، وتجعله يهرول إلى ريشته أو قلمه كلما باغتته. ربما كانت تقصد الدهشة، المظلة التي كانت تحميها من صهد الواقع.
حياة سيرافين، التي تحولت إلى فيلم عام 2008 من إخراج مارتان بروفوست وبطولة يولاند مورو، تبدو مدخلا جيدا للحديث عن الدهشة وعلاقتها بالجمال والفن وإعانتها على احتمال الحياة.
كانت سيرافين دو سينليس خادمة ريفية طيبة، ورثت مهنتها من والدتها، وعاشت حياتها محملة بإرث عائلي ثقيل، تعيش وحيدة، بلا أصدقاء، تتكلم باقتضاب حتى تظن أنها نسيت من أين تخرج الحروف، وهكذا ظلت حتى يومها الأخير. كان يمكن أن تمر مثل ملايين غيرها، يولدون ويموتون دون أن يشعر بوجودهم أحد، لكنه ذلك السحر الذي مسها يوما، فحولها إلى فنانة دخلت التاريخ دون قصد ودون أن تدرك ذلك .
لم تكن سيرافين تعرف القراءة ولا الكتابة، وكانت معدمة تماما، لا تكفي النقود التي تحصلها من عملها كخادمة لسد رمقها، خاصة مع حالة الكساد الاقتصادي التي ضربت البلاد بسبب الحرب العالمية، لكنها رغم ذلك، كانت تشتري بهذه النقود القليلة مواد تحولها إلى ألوان ترسم بها لوحات مبهرة، وعندما لا تجد تعتمد على عطايا الطبيعة وأوراق الشجر في تجهيز ألوانها وموادها الخام التي لم يكتشف أحد سر سحرها الخاص ولا مكوناتها حتى الآن.
كان يمكن أن تموت سيرافين وهي تمارس هذا الفن دون أن يعرف أحد، ودون أن تعرف هي أن ما تفعله يساوي آلاف الدولارات، لم تكن تعرف أحدا من رسامي عصرها ولا العصور السابقة، لكنها كانت تؤمن بما تفعله، تؤمن بأن هذا السحر، هذه الدهشة، هي التي تجعلها تحتمل الحياة، وتصل الليل بالنهار لتكمل لوحات لا يراها أحد. لم يكن هناك دافع إلا الدخول إلى مناطق الدهشة والمتعة والجمال.
تعلمت سيرافين الرسم بنفسها؛ لأنه كان معينها الأول على احتمال الحياة، وكانت تعتبره حياتها، فكانت تفضل أن تشتري طلاء على أن تشتري خبزا. وعلى الرغم من أن أعمالها تصنف باعتبارها أقرب إلى «الفن الساذج»، فإنها في قيمتها توازي أعمال فان جوخ. لم يكن لديها مصادر للتعلم إلا الطبيعة؛ لذا في الفيلم الذي قدم عنها، نجدها عندما تجد شجرة تذهب لتحتضنها؛ فهي مصدر الدهشة والمتعة والجمال بالنسبة إليها.
Halaman tidak diketahui
لم تر لوحات سيرافين النور إلا بعد أن وصلت إلى الثامنة والأربعين، حين التقت بالصدفة بالرجل الذي اكتشف بيكاسو، مجمع اللوحات الشهير، الألماني ويلهايم أودي الذي استأجر شقة في منزل مخدومها، ورأى لوحاتها التي تعكس حالتها النفسية ما بين التوهج والنشوة، وقادها إلى الشهرة، لكنها انتهت إلى الجنون، وماتت فقيرة في مستشفى للأمراض العقلية، لكنه ليس الجنون، بل هي أسئلة الفن ومصير الفنان التي لم تستطع أن تجيب عنها، ربما كانت موهبتها أكبر من هذه الأسئلة، ربما فاجأها الفن بأسئلة أعظم فجعلها تقفز من سور الدهشة الذي يفصل بين العقل والجنون.
هذا ليس كتابا عن سيرافين، بل عن السبب الذي قادها إلى الفن والجنون، عن الدهشة والجمال، المرتبطين بالضرورة معا، أحدهما يقود إلى الآخر، أحدهما يسلمك من يدك إلى الآخر، ويمنح قلبك قبلة الحياة، ويساعده على النبض أسرع.
الدهشة، عدوة الاستعارات الميتة، قرينة كسر المألوف، ابنة الغرابة والفن، صديقة الأرنب الذي قفز من القبعة الفارغة. هل تذكر أول مرة شاهدت فيها هذا المشهد؟ بالنسبة إلي كنت صغيرا جدا أحدق في الشاشة، في محاولة للفهم والاستيعاب مع إحساس بالمتعة، يجعل الحياة متقدة كشعلة مضيئة في ظلام اليوم العادي المميت.
هذا كتاب عن السحر، في شتى صوره، التي تبدأ من وقوف الساحر ذي القبعة الطويلة، يمسك القبعة بيد، وأذني الأرنب في يد أخرى؛ إلى سحر الإمساك بالقلم وتشكيل عالم جديد؛ لذا فهذا كتاب عن فن الكتابة، إلى سحر خلق عالم مدهش تتأمله بعينين مفتوحتين في صالة مظلمة؛ لذا فهذا كتاب عن السينما، عن المشهد الذي رأيته صغيرا فظل عالقا حتى الآن؛ لذا فهو كتاب عن الماضي والحاضر. ولأنني ما زلت حيا بدهشة تجري في عروقي بدلا من الدم، فهو كتاب عن المستقبل.
هذا كتاب عن الدهشة وضد علامات التعجب، أكن عداوة لعلامة التعجب عندما تكون في نهاية الكلام، لا أحتاج إلى من يرفع حاجبي نيابة عني، لا أريد من يضع يدي على موضع الدهشة، ويقول لي: تعجب، لا أريده سوى أن يتركني هكذا، هائما في صحراء الكلام، فربما أتعثر في دهشة، تطيل الحياة يوما آخر، أو تمنح لها معنى.
في البدء كانت الدهشة، ثم جاء بعدها كل شيء.
عن الكتابة
كيف تصبح كاتبا فاشلا؟ ... سبع نصائح
كل الكتاب سيقولون لك كلاما آخر، سيقدمون لك عشرات النصائح التي تبدأ ب «كيف تصبح كاتبا جيدا»، سيخطون لك الطرق التي تجعلك - إذا سرت عليها - كاتبا مرموقا. لكني سأقول لك العكس: ما الذي إذا فعلته فلن تصبح كاتبا ناجحا؟ ما الذي إذا حافظت عليه فستصير كاتبا فاشلا؟ سأقول لك. (1) اكتف بالموهبة
إذا أردت أن تصبح كاتبا فاشلا - ولديك الموهبة - فلا تفعل شيئا آخر، اكتف بالجلوس على المقاهي وتصفح فيس بوك وقل للقاصي والداني: «أنا موهوب.» املأ الدنيا صراخا بأنك أكثر أبناء جيلك موهبة؛ لأنك بعد سنوات ستملؤها صراخا بأنك قد ظلمت ولم يلتفت أحد لموهبتك، دون أن تضيف أنك لم تفعل شيئا لهذه الموهبة أو تصقلها بالقراءة أو الاهتمام أو التطوير. يمكنك أن تقول إن الموهبة كانت عصفورا صغيرا جاءك هدية وأنت صغير، كبرت أنت في العمر، لكنك أهملت العصفور، فلم تطعمه، ولم تسقه، ولم تحضر له بيتا أكبر، حتى ضاق عليه القفص فقتله، أو حطم أضلاعه على أقل تقدير. (2) لا تكتب
Halaman tidak diketahui
الكاتب الجيد يتدرب بشكل دائم على الكتابة. ظل نجيب محفوظ يكتب بشكل يومي؛ حتى تحول الأمر إلى طقس صباحي بالنسبة إليه. كان محمود درويش يفعل الأمر نفسه. معظم الكتاب الناجحين يفعلون ذلك؛ لأنهم يدركون أن اليد التي تكتب مثل الآلة التي تحتاج إلى «تزييت» دائم، فإذا أهملتها صدئت تروسها. لكنك لا تريد أن تصبح مثلهم. هل تذكر زملاءك الذين كانوا يكتبون معك أيام الجامعة، ثم ضاعوا وتوقفوا عن الكتابة، بل ضاعوا لأنهم توقفوا عن الكتابة؟ حسنا، يمكنك أن تكتب نصا واحدا وتكتفي بذلك، أو لا تكتب إطلاقا، لكن تأكد أن الكتابة ليست ملكا لأحد، بل ملك لمن يتدرب عليها بشكل دائم. (3) لا تقرأ
يقول الكاتب الألماني فرانز كافكا: «أعتقد أنه يجب علينا قراءة الكتب التي تدمينا، بل وتغرس خناجرها فينا. نحن بحاجة إلى الكتب التي لها وقع الكارثة، الكتب التي تحزننا بعمق مثل وفاة شخص نحبه أكثر من أنفسنا، مثل أن ننفى بعيدا في غابة بمنأى عن الآخرين، وكأنه الانتحار. يجب أن يكون الكتاب هو الفأس الذي يكسر جمودنا.» أنت تختلف عن كافكا، فأنت لست بحاجة إلى قراءة تراث الإنسانية من الإبداع، ولا قراءة مجايليك ولا الأجيال التي سبقتك. لكنك ستكتشف بعد فترة أنك - يا صاحب الموهبة - قد أصبحت في آخر الركب، أن الكتابة قد سبقتك، أن الكتابة تتطور وتعلو مثل جدار يضع فيه كل شخص لبنة بعد أن يطلع على اللبنات السابقة، بينما أنت ما زلت في الأسفل، لا تصل قامتك إلى ما وصل إليه البناء، تحمل في يدك كتابا مغلقا يأبى أن يفتح في وجهك. (4) صدق نفسك
لا بد أن هذا المشهد قد مر عليك: شخص يسألك عن الشهر العقاري لأنه يريد أن يسجل قصائده خوفا عليها من السرقة. قبل أن تقرأ ما كتب تأكد أنه يصدق أنه أمير شعراء عصره، وأن الآخرين يتربصون به ويريدون سرقة «روائعه» التي بعد الاطلاع عليها ستجدها تفتقد إلى أبجديات الكتابة. الكاتب الجيد لا يملك اليقين الذي يملكه هؤلاء الذين يصدقون أنفسهم ويعتقدون أنهم رائعون. الكاتب الجيد حتى لو صار كاتبا شهيرا وطبعت له عشرات الكتب يظل في حالة شك دائم فيما يكتب، يعيد كتابة ما كتب عشرات المرات، لا يصدق أن نصه جيد، حتى لو قال له الآلاف ذلك. الشك هو نعمة الكتابة الجيدة. اليقين هو نقمة الكاتب الفاشل. (5) التزم بالقواعد أو «كن عاقلا»
الكاتب العادي هو الذي يكتب مثل الآخرين، الذي يلتزم بالقواعد، الذي لا يخرج من باب البيت، فيظل محبوسا في نصوص الآخرين، ينظر في المرآة فلا يرى وجهه، بل يرى وجوه من سبقوه. لكن الكتابة الحقة هي تجاوز المعتاد، هي الجنون بعينه، هي تكسير القواعد. كل نص هو جنون جديد أو محاولة للجنون على أقل تقدير. أن تكون مجنونا في كتابتك يعني أنك كاتب جيد. يقول جابرييل جارثيا ماركيز إن «كل قصة تحمل معها تقنيتها الخاصة، والمهم بالنسبة إلى الكاتب هو اكتشاف تلك التقنية.» ويقول كونديرا: «لا توجد حيلة في الرواية قد اتهمت بالمريبة والسخيفة والنمطية كما اتهمت الحبكة وهزليتها المبالغ فيها. تظل - مع ذلك - طريقة أخرى لدحض تهمة «المريبة» عن الحبكة واستغلالها بأقصى درجة ممكنة، وذلك بتحريرها من مطلب الاحتمالية: أن تحكي قصة مفاجئة اختارت هي أن تكون مفاجئة.» لكن إذا كان هذا هو رأي كونديرا وماركيز، فلا شك أن لك رأيا آخر. (6) لا تحذف شيئا
أنت تريد أن تصبح كاتبا فاشلا، إذن لا تغير شيئا في النص، ولا تكتبه مرة أخرى. الكاتب الجيد يفكر دائما في التنقيح والحذف، والكاتب الأكثر جودة يفكر في الإضافة بالحذف؛ ما الذي إذا حذفه يضيف بعدا جديدا لما يكتب. يقول ماركيز أيضا إن «الكاتب الجيد لا يعرف بما ينشره بقدر ما يعرف بما يلقيه في سلة المهملات.» الكاتب الجيد هو الذي يهتم بالاستبعاد، لكن الكاتب الذي يعتبر نفسه كاتبا عظيما يرى أن ما يكتبه مقدس، لا تطوله يد الحذف ولا التنقيح، وهذا ينتج عنه نص طويل مترهل، يضر بالعمل كله، وليس بمقطع أو اثنين. الكاتب الجيد هو الذي يعيد كتابة نصه مرة واثنتين وعشرا، وفي كل مرة يحذف ويضيف ويحذف، حتى يصل إلى نسخة مثل المياه المقطرة الخالية من أي شوائب. الحذف بحسب كونديرا يجعلك تصل مباشرة إلى قلب الأشياء. (7) الكتابة تحتاج إليك
الآن، بعد أن التزمت بكل الخطوات السابقة، توقفت عن القراءة والكتابة، وصدقت نفسك، واكتفيت بكونك موهوبا، والتزمت بالقواعد، لم يتبق سوى أن تؤمن بأن الكتابة تحتاج إليك حتى تكتمل مأساتك. الكاتب الحقيقي هو الذي يحتاج إلى الكتابة، هو الذي يجد فيها ترياقا للحياة. يقول أمل دنقل: «الكتابة عندي بديل للانتحار.» وتحكي إيزابيل الليندي: «عندما كنت أكتب كتابي الأخير «الجزيرة تحت البحر»، مرضت إلى حد فظيع حتى ظننت بأنني مصابة بسرطان في المعدة. واصلت التقيؤ، ولم أقدر على الاستلقاء، وكان علي أن أنام جالسة. قال لي زوجي: إنه جسدك يتفاعل مع القصة، عندما تنهين الكتاب ستكونين بخير. وهذا ما حدث بالضبط.» الكتابة إذن بحسب إيزابيل هي استعباد: «إنني أحمل القصة في داخلي طوال اليوم، طوال الليل، في أحلامي، في جميع الأوقات.» لكنه الاستعباد الأجمل.
الآن، هل التزمت بهذه التعليمات؟ حسنا، مبارك، لقد أصبحت كاتبا فاشلا.
سبعة أشياء يتعلمها الكاتب من الأطفال!
الكتابة لعبة، لكنها تتم بمنتهى الجدية، شرطها الأساسي أن يصدقها طرفاها؛ القارئ والكاتب، يلتزمان بقواعدها، يمارسانها بحب. ولأنها لعبة، فيمكننا أن نقارنها بأية لعبة أخرى، وبملوك اللعب العظام أيضا؛ الأطفال. (1) الخيال
راقب طفلا يلعب، وشاهد ماذا يفعل؛ ستجد الأوراق تتحول إلى نقود، والوسادات طائرات مجنحة، وأطباق الطعام تتكلم، والأقلام تتصارع. بالخيال يستطيع الكاتب أيضا أن يخلق عالما مثل ذلك الذي خلقه الطفل؛ سمه واقعية سحرية، أو ما بعد حداثة، أو أيا كان الاسم الذي ستختاره؛ فعلى الكاتب أن يتعلم الخيال من الطفل أولا. يقول هاروكي موراكامي: «تخاف من الخيال؟ وتخاف أكثر من الأحلام؟ من المسئولية التي تبدأ في الأحلام؟ لا بد لك من أن تنام، والأحلام جزء من النوم. يمكنك وأنت مستيقظ أن تقمع الخيال، أما الأحلام فلا يمكنك قمعها.» الكتابة إذن استكمال للحلم الذي لا يقيده الواقع. (2) تغيير قواعد اللعبة
Halaman tidak diketahui
لا يلتزم الأطفال بقواعد أية لعبة؛ هم في سعي دائم لكسرها، لخلق قواعد مختلقة تخلق بدورها ألعابا جديدة. في كرة القدم مثلا ثمة طفل اكتشف أننا إذا غيرنا عدد اللاعبين إلى خمسة فستصير كرة خماسية، وإذا لعبناها باليد فستصير كرة يد، وإذا ألقيناها في السلة فستصبح كرة سلة، وهكذا ... في كل تغيير لعبة جديدة. الأطفال يصنعون الألعاب الجديدة، والحكام/النقاد يضعون القواعد التي يجب على الأطفال/الكتاب كسرها على التوالي؛ فالكاتب الذي يظل طوال الوقت يحتفظ بالشكل التقليدي وبالقواعد المعتادة للنص (بداية - وسط - نقطة تنوير) لن يقدم شيئا مختلفا، سيظل أسيرا لهذه القواعد، في حين أنه لو أعاد فقط ترتيب بعض أدواته لوجد أنه يقدم شيئا مختلفا. في الشعر تم تغيير قواعد اللعبة باستبعاد القافية، فاكتشفنا قصيدة التفعيلة، ثم تم تغيير القواعد مرة أخرى باستبعاد الوزن، فاكتشفنا قصيدة النثر. يعلق بورخيس على مجموعته القصصية «تاريخ عالمي للخزي» التي تحكي سير أشخاص حقيقيين أعاد تشكيل حيواتهم، بقوله: «إنها ألعاب غير مسئولة لشاب خجول لم يجرؤ على كتابة قصص؛ ولذا راح يسلي نفسه بتزييف وتشويه حكايات الآخرين دون أي مبرر جمالي.» (3) لماذا يلعب الأطفال؟
أعتقد أن إجابة هذا السؤال مشابهة لإجابة سؤال «لماذا تكتب؟» عند الكثيرين. الطفل يلعب لأنه يشعر بالمتعة في ذلك، وأعتقد أن على الكاتب أن يفعل ذلك؛ فإذا لم يكن يشعر بمتعة عندما يكتب، فلماذا يفعل ذلك؟ المتعة هي شرط اللعب الأول؛ أي لعب. وهذه المتعة تنطبق على طرفي اللعبة؛ القارئ والكاتب. في مقدمة مجموعته القصصية «12 حكاية عجيبة» التي كتبها في أبريل 1992، يعترف «ماركيز» بأن: «متعة الكتابة أعظم المتع حميمية ووحدة على الإطلاق.» ويكتب أيضا في المقدمة نفسها: «أحس بأنني أكتب لمتعة القص وحدها، والتي ربما كانت أشبه بانعدام الوزن». ويقول نجيب محفوظ: «أكتب للمتعة، ولكي أرضي قوة غامضة بداخلي.» (4) الحماس
إذا لم يتحمس الطفل للعبة فلن يهتم بها. إذا لم يتحمس الجمهور لأية مباراة فلن يتابعها. الحماس هو شرط اللعب الأساسي. توقف ماركيز عن الكتابة في عام 2005 ولمدة عامين، واعترف بأن مشكلته كانت فقدانه الحماس، واعتبر أيامه التي مضت دون كتابة «إجازة من الكتابة». والأمر نفسه ينطبق على نجيب محفوظ عندما توقف عن الكتابة بعد ثورة يوليو 1952 لسنوات؛ لأنه لم يجد دافعا للكتابة. (5) التواطؤ
أحيانا يجب على أحد طرفي اللعبة التواطؤ مع الطرف الآخر لاكتشاف مسارات جديدة لها. وهو ما ينطبق على الكتابة أيضا؛ فعلى القارئ في بعض الأحيان أن يغض الطرف عند القراءة عن أمر غير اعتيادي، أن يتواطأ مع الكاتب في لعبته حتى يصل إلى النهاية المختلفة التي يخطط لها؛ لأنه لو توقف وتساءل: «لماذا؟»، أو قال: «هذا غير مبرر» أو «غير منطقي»؛ لفسدت اللعبة كلها. التواطؤ يعني أن تدخل اللعبة بجسدك وروحك، أن تصبح شريكا فيها، أن تعلن الاستسلام أمام قواعدها الجديدة. (6) صندوق المفاجآت
أكثر ما يسعد الطفل هو صندوق الهدايا الذي يخبئ داخله ما لا يعرفه ويتشوق إلى معرفته. يحب الأطفال العلب المغلقة حتى يستكشفوا ما تخفيه داخلها. الكتابة هي صندوق المفاجآت، إذا عرفت ما بداخله فسدت المفاجأة، إذا عرفت ما الذي سيقوله الكاتب في الصفحة التالية فلن تقرأ بقية الكتاب، إذا توقعت النهاية فلن تكمل النص. على الكاتب أن يحول كتابه إلى صندوق مفاجآت إذن - حتى لو كان نصا اعتياديا - بابتكارات على مستوى اللغة والسرد والصورة. أتذكر هنا الجملة الأولى في فيلم «فورست جامب» لتوم هانكس: «تقول أمي دائما إن الحياة كعلبة من الشوكولاتة، أنت لا تعرف أي واحدة تأخذ.» (7) لا تبحث عن هدف كبير
لا يقول طفل: «أريد أن ألعب من أجل كذا وكذا»، لا يبحث عن مبرر لحبه للعبة دون الأخرى، لا يبحث في جماليات لعبة «الاستغماية». وأعتقد أن على الكاتب أن يفعل ذلك. كل الروايات التي تضع لنفسها هدفا كبيرا، أو التي كتبت لخدمة قضية سياسية، مصيرها النسيان. أجمل ما في الكتابة هو أن تترك نفسك لها، لا أن تقودها. إذا فعلت، فأنت هنا تعود للفكرة الأولى التي تحدثنا عنها؛ وهي وضع قواعد للعبة التي همها الأساسي كسر القواعد. يقول فرناندو بيسوا: «لقد حلمت بأكثر مما حلم به «نابليون» نفسه، ضممت إلى صدري المفترض إنسانيات أكثر مما ضم المسيح، شيدت في السر فلسفات أكثر من كل ما كتب أي «كانط»، لكنني كنت وسأكون دائما مجرد ساكن غرفة في سطح.» حسنا، افعل هذا؛ اكتب دائما كمجرد ساكن غرفة في سطح.
أسئلة الكتابة المرة
في حوار نشرته إحدى الصحف الإسبانية أخيرا مع المخرج وكاتب السيناريو الأمريكي «وودي آلان»، أجاب منفعلا عن أحد الأسئلة:
نحن نعيش في عالم بلا معنى، بلا هدف. نحن وكل الأسئلة المهمة سنموت. بالنسبة إلي، لم أهتم قط بمن هو رئيس الولايات المتحدة، هذه الأشياء تروح وتأتي. الأسئلة الكبيرة تبقى معنا وليس لها جواب. لماذا نحن هنا؟ ماذا نفعل هنا؟ من أين يأتي كل ذلك؟ ما أهمية الشيخوخة؟ لماذا نموت؟ ماذا تعني الحياة؟ وإن لم يكن لها معنى، فما فائدتها؟ هذه هي الأسئلة التي تصيبنا بالجنون، ولا جواب لها.
كان آلان غاضبا؛ لأنه رغم أعوامه الثمانين، لم يعرف إجابة هذه الأسئلة؛ لأنه رغم الإجابات التي حاول أن يقدمها في أفلامه، والسيناريوهات المتعددة التي كتبها، لم يقدم الإجابة الصحيحة، أو لم يستطع حتى التوصل إلى هذه الإجابة المفترضة.
Halaman tidak diketahui
حسنا؛ أنا أيضا غاضب مثل آلان. لم أبلغ عمره، ولم أقدم ما قدم، لكني لا أستطيع أن أمنع نفسي من الغضب؛ لأنني لم أقدم إجابة لأي سؤال بحثت عنه. أعتقد أن هذا أيضا هو حال كل من قرر أن يختار الكتابة طريقا له، أن يجد إجابة لأسئلة نمت في نفسه صغيرا، فلم يجد طريقة للإجابة عنها سوى أن يكتب، لكنه رغم ذلك يفشل في الوصول إلى تلك الإجابة «النموذجية»؛ ربما لأنه لو توصل إليها فسيتوقف عن الكتابة، ربما لأن هذه الإجابة هي سر الكون، سر الوجود الإنساني ذاته.
مشكلة الأسئلة الكبيرة أنها ستظل كبيرة، تتنقل مع القصيدة من كونها قصيدة عامة، قصيدة كونية، إلى القصيدة المغرقة في الذاتية. الأسئلة الكبيرة نفسها، الموت الذي يطارد ملايين اللاجئين في قصيدة سياسية هو نفسه الموت الذي يطارد شابا منغلقا على ذاته في حجرة في حي فقير. الأمر لا يتعلق برفاهية الإجابة عن السؤال، بل بالقدرة عليه؛ فلا رفاهية هنا في البحث عن إجابة، بل هو قدر محتم، محتم تماما كأنه الموت، كأنه الأسئلة الكبيرة التي بلا جواب.
يقولون إن مهمة الفن هي طرح الأسئلة. لكن «الفنان» رغم ذلك يظل يتعذب بتلك الأسئلة التي لا يعرف الإجابة عنها، من كتاب إلى آخر، ينقلها إلى القارئ، كأنه يلقي هما بعيدا عنه في وجه من يحملقون في وجهه، وهذا جزء من دور الفن الذي لخصه قول الشاعر الأمريكي روبرت فروست: «إذا لم يذرف الكاتب الدموع فلن يذرفها القارئ، وإذا لم يتفاجأ الكاتب فإن القارئ لن يتفاجأ.» بل ربما كانت هذه الأسئلة هي التي تمنح «الفن» قيمته.
السؤال الأكبر - وربما الأخير - هو «جدوى الفن». وعلى الرغم من قدم السؤال، فإنه يبدو الآن ملحا بشدة في ظل تغيرات سياسية واجتماعية شديدة الدراماتيكية، فماذا يفعل الشعر للأطفال في الحرب؟ كيف ستعوض الرواية الأرامل والسبايا في مناطق الصراع؟ ماذا ستقدم السينما للفقراء النائمين على الرصيف؟ وإذا رأيت أن هذه الأسئلة تبدو شديدة التشاؤم أو السطحية أو الجدلية، فإن أندريه تاركوفسكي يجيبك في كتابه «النحت في الزمن» بأنه قبل الذهاب إلى المعضلات الخاصة بطبيعة الفن: «من المهم تحديد فهم الهدف الجوهري للفن في حد ذاته. لماذا يوجد الفن؟ من يحتاجه؟ وهل يحتاجه أحد بالفعل؟ هذه أسئلة لا يطرحها الشاعر فحسب، بل أيضا أي فرد يقدر الفن ويدرك قيمته، وحتى المستهلك، وفق التعبير الشائع الدال على العلاقة المعاصرة بين الفن وجمهوره.» ويستدل تاركوفسكي على هذا بقول الشاعر ألكسندر بلوك: «الشاعر يخلق التناغم من حالة الفوضى.» وبأن «بوشكين» آمن بأن الشاعر موهوب بالنبوءة، لكنه يرى في النهاية أن كل فنان محكوم بقوانينه الخاصة، وهذه القوانين ليست إلزامية أبدا لأي شخص آخر؛ لأن «غاية الفنون كافة هي أن تفسر للفنان نفسه، ولأولئك المحيطين به، معنى وجوده وما يعيش الإنسان لأجله ودفاعا عنه، أن تفسر للناس سبب ظهورهم على هذا الكوكب، وإذا كان التفسير أمرا غير وارد، فعلى الأقل أن تطرح الأسئلة.»
هذه الإجابة التي يقدمها تاركوفسكي يمكن أن نضعها إلى جانب عشرات الإجابات التي حاولت - عبر تاريخ الكتابة - أن تقدم إجابة لسؤال الفن، ولجدواه، التي لا تنفصل بأي حال من الأحوال عن «الأسئلة الكبرى التي بلا إجابة، بل يمكن اعتبار أن هذا هو السؤال الأخير الذي سيسأله الكاتب لنفسه قبل أن يضع القلم ويفارق الحياة، إن لم يكن - بطبيعة الحال - هو السؤال الذي يطارده قبل كل نص يكتبه.
هل الفن بهذه الطريقة نقيض المعرفة؟ الفن يبحث عن المعرفة، ليس بمعناها العلمي بطبيعة الحال؛ فمن يعرف كل شيء، من يملك كل الإجابات، لا يحتاج أن يكون شاعرا أو روائيا أو فنانا، لكن مع الفن تضحي المعرفة أيضا عذابا جديدا؛ لأنها تولد أسئلة أخرى، أكثر عذابا.» «شيمبوريسكا» في محاضرتها التي ألقتها في 7 / 12 / 1996 في استوكهولم، بمناسبة تسلمها جائزة نوبل في الأدب للعام 1996، قالت شيئا كهذا:
كل معرفة لا تنشئ بنفسها أسئلة جديدة، ستصير ميتة في وقت سريع، تفقد الحرارة المناسبة للحياة. في الحالات الأكثر تطرفا، المعروفة جيدا من التاريخ القديم والمعاصر، تستطيع هي أن تكون خطيرة للمجتمعات بشكل مميت؛ لذلك أعتز كثيرا بكلمتين صغيرتين هما: «لا أعرف». صغيرتان، لكنهما مجنحتان بقوة، توسعان لنا الحياة بمساحات تكمن فينا، وبمساحات معلقة فيها أرضنا الدقيقة. الشاعر كذلك، إذا كان شاعرا حقيقيا، يجب أن يكرر على نفسه باستمرار: «لا أعرف»، ويحاول أن يجيب عن ذلك بكل عمل من أعماله، لكنه حالما يضع نقطة تعتريه حيرة، ثم يبدأ بإدراك أن هذه الإجابة هي إجابة مؤقتة، غير كافية إطلاقا؛ لذلك يحاول مرة أخرى، وأخرى، وبعدها يربط مؤرخو الأدب هذه الأدلة المتوالية على عدم رضاه عن نفسه بمشبك كبير ويسمونها نتاجا أدبيا. «هاروكي موراكامي» روائي ناجح، ويعرف أنه ناجح، وأنه يبيع ملايين النسخ، وأن لديه آلاف المعجبين الذين يطاردونه في حفلات التوقيع؛ لدرجة أنك من الممكن أن تصفه - بصفاء نية - بالكاتب الشعبوي، لديه نظام معين في الكتابة، يكتب كل يوم بانتظام، لكن ذلك لم يمنعه من طرح الأسئلة.
يقول في حوار معه:
أحيانا أتساءل لماذا أنا روائي هنا والآن؟ لا توجد أي خطة عمل جعلت مني روائيا. شيء ما حصل فأصبحت كاتبا، وكاتبا ناجحا منذ الآن فصاعدا. فحينما أحل في الولايات المتحدة أو أوروبا، فالعديد من الناس يعرفون من أكون. إن ذلك يعتبر غاية في الغرابة. منذ سنوات خلت، ذهبت إلى برشلونة وأقمت حفل توقيع؛ ألف شخص قدموا، وكانت الفتيات يقبلنني. فوجئت كثيرا. ما الذي حدث لي؟
إذا كنت كاتبا مثلي، فأنت تعرف الآن أن الفشل في الإجابة عن سؤال، سواء أكان كبيرا أم صغيرا، عاما أم خاصا، هو الذي يدفع دوما لكتابة جديدة؛ كأنها متاهة استيقظت ووجدت نفسك فيها، ووجب عليك الخروج منها. كل سؤال جديد متاهة جديدة، تطل على الأسئلة/المتاهات الأخرى التي لا تنتهي. مع بداية كل نص تفرح كطفل أمسك أول الخيط، ومع نهاية النص يختفي الخيط تماما.
Halaman tidak diketahui
مع كل مرحلة عمرية يباغتك سؤال جديد، فيحاصره فشل الإجابة، تهرب منه بمحاولة الإجابة عن سؤال آخر، وهكذا دواليك، لا تعرف حتى متى ستستمر هذه الرحلة التي لا تنتهي!
مع التقدم بالعمر تتضاءل الأسئلة؛ أقصد يتضاءل اهتمامها، تتحول الرغبة في تغيير العالم إلى رغبة ملحة في تغيير الذات التي فشلت في نقل قدم العالم قيد أنملة من مكانها .
بالنسبة إلي، أدرك الآن جيدا أنني لن أجيب عن أي سؤال بحثت عن إجابته، لكن ربما علي أن أشكر تلك «الأسئلة المرة» التي جعلتني أواصل الكتابة، وأبقتني على قيد الحياة.
إخراج الأرنب من القبعة
كصاعقة تضرب رأسك بينما تسير في صحراء، كاكتشاف النار، كلقاء حبيب غائب، كتجربة أولى في معمل العلوم لطلاب صغار، كإخراج الأرنب من القبعة، كسراب يصير ماء، كمراقبة لاعب سيرك يسير على حبل ممتد في الفضاء، كخبر عن ظهور التنين، كمصباح يضيء في نهاية النفق المظلم؛ هكذا هي اللحظة المدهشة أثناء الانغماس في القراءة والكتابة، تضرب القارئ والكاتب معا، يبتسم القارئ وتتسع عيناه ويلتهم ما تبقى من الكتاب، وتنفرج أسارير الكاتب ويغمس قلمه أكثر في الحبر، ويواصل اختراع الدهشة.
لا كتابة حقيقية من دون إدهاش، ولا إدهاش من دون إمتاع. في القصة أو الشعر أو المسرح أو السينما، إنها تلك اللحظة التي تورق فيها الوردة، فتغوص في مقعدك وأنت تحدق أكثر في الشاشة أو الكتاب. الإدهاش هو قدرة الإنسان على الخلق، على الإبداع، على رسم حياة موازية كفيلة بالمتعة. إنها فتح الباب التاسع والتسعين - المغلق دوما في القصص التراثية - والارتماء في العالم الذي يتشكل. ما يفعله الإبداع المدهش هو ما وصفه «نيكانور بارا» في قصيدته «الأفعوانية»:
على مدى نصف قرن
كان الشعر
جنة أشد الناس حمقا
حتى أتيت
Halaman tidak diketahui
وبنيت أفعوانيتي.
اصعد إن أحببت.
طبعا أنا لست مسئولا إن أنت نزلت
وفمك وأنفك ينزفان دما!
في «كافكا على الشاطئ» ل «هاروكي موراكامي»، كان الرجل يكلم القطط ويخاطب الحجارة، وكانت السماء تمطر أسماكا، وكان رجل آخر يجمع الأرواح كي يصنع بها نايا. وفي روايات ماركيز تطير النساء، وحين تضع الفتاة يدها على النافذة فتصبح خضراء ندرك أنها وقعت في الحب. وفي ألف ليلة وليلة تتنقل ما بين البساط السحري وطيور الرخ العملاقة وسياف مجنون يطارد بقية الحكاية. الدهشة إذن هي تمرد على الواقع، ليس بالضرورة أن تنتمي للواقعية السحرية، أو الفانتازيا أو السريالية، أو الخيال العلمي. الدهشة تأتي أيضا من التفاصيل البسيطة، النظرة المغايرة للأشياء التي نراها يوميا دون أن ننتبه، وهذا هو الفن.
يقول «تشارلز سيميك»:
في الستينيات عندما كنت أصنف على أني سريالي، بعد ما يزيد على أربعين عاما من الحركة، السريالية بنفسها بدت سخيفة. كان دائما يبدو لي أن هناك طريقتين للنظر إلى العالم: واحدة بعيون مفتوحة، حيث بالطبع هناك الكثير من الأشياء الممتعة للنظر؛ بينما الطريقة الأخرى بعيون مغلقة، حيث أحيانا تستطيع أن ترى الأشياء بطريقة أفضل. في كتابتي، أبدا لم أوضح للقارئ: «حسنا، الآن أنا سوف أغلق عيني.» بدلا من ذلك أنا أعود للخلف متناوبا بين الطريقتين كما يعجبني. بالطبع أنا أتقبل الواقع. نعم، لكني رأيت الكثير من الواقع في حياتي ليس بسبب ذلك، لكن من دون خيال لا يستطيع المرء أن يصنع شيئا ذا قيمة مما رآه.
هذا يعني أن «الإدهاش» يمكن أن تقتنصه من رجل مار، من ظل ملقى على الأرض، من وجبة طعام اعتيادية تتناولها كل يوم على ذات الطاولة؛ لذا يمكن اعتبار الإدهاش أيضا ثورة على الحياة الاعتيادية، تمردا على الواقع اليومي، تغيير الاعتيادي إلى غريب ننظر تجاهه نظرة أخرى، الفن بإدهاشه إذن يغير نظرتك إلى العالم.
وفي الكلمة التي ألقاها الروائي البيروفي «ماريو فارغاس يوسا» بمناسبة حصوله على جائزة نوبل أشار إلى هذا المعنى، بقوله إن «الأدب هو تمثيل مخادع للحياة، ومع ذلك يساعدنا بشكل أفضل على فهمها، على قيادتنا في المتاهة التي ولدنا فيها، التي نجتازها والتي نموت فيها. إنه يعوضنا عن الخيبات والكبت اللذين تصفعنا بهما الحياة الحقيقية؛ إذ بفضله نستطيع أن نفك - ولو جزئيا - شفرة هذه الهيروغليفية التي يشكلها الوجود بالنسبة إلى غالبية الكائنات البشرية، وبخاصة بالنسبة إلينا نحن المسكونين بالشك أكثر من اليقين.» «دهشة الفن» دافع أساسي للقارئ لكي يكمل قراءة النص، وللكاتب لكي يكتشف عوالم أخرى تعينه على الحياة، لكن لا يكفي أن يكون الإدهاش وحده هو سلاح الكاتب، ف «النكتة» التي يرويها عجوز على مقهى في شارع جانبي من مدينة منسية، مدهشة بشكل ما، فالمفارقة في نهايتها تدفع الجالسين لرفع حواجبهم عاليا ثم الانفجار ضحكا؛ لذا لا يكتفي الكاتب بالحكاية المدهشة التي تنتزع الضحكات أو الشجن أو تثير الحزن؛ فهناك اللغة المستخدمة، والسياق الجمالي للنص، هناك المغايرة التي تسير بموازاة الحياة، هناك معنى الفن وجماليته وعنفوانه وتأثيره.
تطور «الإدهاش» مع تطور الكتابة، بداية من الإدهاش اللغوي بالمجاز والجناس في الشعر العربي القديم؛ وهو منتشر بشدة في الفنون الشعبية: «الموال»، و«فن الواو»، و«السير الشعبية»، مرورا بالمفارقة ونقطة الإضاءة، وصولا إلى الإدهاش بشكله الحالي الذي لا يتطلب من الكاتب أن يقدم ما هو غريب بقدر ما هو متماس مع روح القارئ وشعرية التفاصيل البسيطة، وهو في كل هذا يفسر لنا أحد أسباب رغبتنا الدائمة في العودة إلى نفس الكتب التي قرأناها من قبل لنقرأها مرة أخرى.
Halaman tidak diketahui
البعض يرى أن الإبداع ليس إدهاش المتلقي وإنما هو عفوية الكلمة، وهذا صحيح إلى حد كبير؛ لأن الفن يجب أن يجمع بين الإدهاش والبساطة والعمق، وأن يتم بحرفية وبذكاء في نفس الوقت، كما في لوحات سلفادور دالي مثلا. وهذا يجعلنا نفرق بين «الإدهاش» و«الإمتاع»؛ فالإدهاش - في ظني - متعلق بالفن أكثر، وإن كان الإمتاع ربما يجده البعض في أعمال فنية قليلة القيمة (البعض يستمتع بمشاهدة المسرح التجاري)، لكن الإدهاش هو جزء أساسي في جوهر الفن الحقيقي، حتى لو كان يقدم الواقع، مثلما فعل نجيب محفوظ في رواياته الواقعية، لكن ما يدهش حقا هو بناء هذا العالم المركب، والعلاقات المتشابكة، وبث الروح في شخصيات على الورق فتبدو وكأنها من لحم ودم، ومحاكاة الحياة التي تجعل من النص حياة موازية، يفضلها البعض على حياتهم الحقيقية.
الدهشة أحد أهم المعايير الجمالية للنصوص ومفتاح أسئلتها، هي قرينة لعدم تكرار الكاتب نفسه؛ لأن القارئ سيكتشف الخدعة إذا قرأ أكثر من عمل، دليل على أن الكاتب قد نجح في الوصول للقارئ، ليست شرطا للفن لكنها جوهره، ليست كلمات متنافرة متراصة بعضها بجوار البعض لخلق دهشة مصطنعة، بل هي البساطة الآسرة التي تمس عقلك كعصا ساحر، الدهشة تختار الكاتب كما قال «يوسا»: «لا يختار الكاتب موضوعاته، بل الموضوعات هي التي تختاره.» فيا له من محظوظ من يقع عليه الاختيار!
أهمية أن نكتب يا ناس
قبل وفاة والد الروائي التركي «أورهان باموق» بفترة قصيرة، أعطاه حقيبة صغيرة مملوءة بكتابات له ومخطوطات وقصاصات مختلفة ودفاتر، مطالبا إياه بأن يقرأها بعد رحيله: «ألق نظرة عليها فقط (قالها الأب وهو محرج قليلا) لترى إن كان فيها ما ينفع، لعلك تختار منها ما يستحق النشر بعد موتي من مختارات.»
يروي باموق ما دار بعد ذلك في كلمته التي ألقاها في حفل العشاء الذي أقيم بمناسبة حصوله على جائزة نوبل للعام 2006: «أراد أبي أن يكون شاعرا إسطنبوليا، وترجم فاليري إلى التركية، لكنه لم يرد أن يعيش تلك الحياة التي تأتي مع كتابة الشعر في بلد فقير به القليل من القراء.» لكن ما كان يؤرق أورهان هو أنه كان غاضبا من والده؛ «لأنه لم يعش حياة مثل حياتي، لأنه لم يتعارك قط مع حياته، وقضاها سعيدا، ضاحكا بين أصدقائه وأحبابه.»
يطرح باموق هنا أمامنا حياتين، على من يود الكتابة أن يختار بينهما: إما «أن يعيش كاتبا ويتعارك مع الحياة»، وإما «أن يعيش سعيدا ضاحكا بين أصدقائه.» باموق الذي حصل على أرفع الجوائز الأدبية يعترف بأنه: أن تكون كاتبا يعني ألا تكون سعيدا. لكنه لم يكن ناقما على والده بقدر ما كان غاضبا؛ لأنه يريد بالفعل حياة الكاتب، لأنه يحتاج إلى الكتابة، لأن لديه - كما قال في كلمته تلك: «احتياجا داخليا للكتابة! أكتب لأنني لا أستطيع القيام بأي عمل آخر مما يفعله الناس. أكتب لأنني أريد قراءة كتب مثل التي أكتبها. أكتب لأنني غاضب منكم كلكم، غاضب من الجميع. أكتب لأنني أحب الجلوس في غرفة طيلة اليوم أكتب. أكتب لأنني لا يمكنني المشاركة في الحياة الحقيقية إلا بتغييرها. أكتب لأنني أحب رائحة الورق، والقلم، والحبر. أكتب لأنني أحب المجد والاهتمام اللذين تجلبهما الكتابة. أكتب كي أكون وحدي. ربما أكتب كي أفهم لم أنا غاضب جدا جدا منكم كلكم. أكتب لأنني أحب أن يقرأني الآخرون. أكتب لأن الجميع ينتظرون مني أن أكتب. أكتب لأن لدي إيمانا طفوليا بخلود المكتبات. أكتب، لا كي أحكي قصة، بل كي أنظم قصة. أكتب لأنني لم أكن سعيدا تماما مطلقا. أكتب كي أكون سعيدا.»
لكن الروائية الفرنسية «آني إرنو» تكتب لسبب آخر: «أكتب، ربما لأن الكلام كان قد انتهى بيننا.» كل كاتب لديه سبب جوهري للكتابة، مرتبط بالآخر، بالقارئ، كما تحدثت في مقال سابق، لكن كل هذه الأسباب تصب في اتجاه الخلود؛ خلود الكتابة، خلود الحياة، خلود الإنسان على هذه الأرض؛ حتى يصبح ثمة فارق بينه وبين الكائنات الأخرى.
الكتابة هي بداية الكلام وانتهاؤه، هي تكون الجنين ونفخة الصور، هي القصيدة التي لم تكتمل وتتمة الحكاية، هي السؤال المعلق في الهواء مثل بيت أسطوري، وهي الجواب الذي يأتي مثل قطرة ماء لتائه في الصحراء، هي السراب الذي لا نريده أن ينتهي، وهي السراب الذي نريده أن يتحقق. هي التحقق، وهي الرغبة في التحقق، وهي ما بعد التحقق. هي التوق إلى الحرية، والطريق إلى الحرية، والحرية ذاتها؛ لأنها - لكاتبها على الأقل - كل شيء، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، أما لغيره ممن لم يدخلوا جنانها، ويسيروا على صراطها ما بين بهجة الوصول وخوف السقوط، فليست أي شيء.
يقول صلاح جاهين:
في يوم من الأيام ح اكتب قصيدة
Halaman tidak diketahui
ح اكتبها
وإن مكتبتهاش أنا حر
الطير ماهوش ملزوم بالزقزقة.
الكتابة تكسر القيد، الكتابة تطلق حمائم الله في سمائه، ثم تنظر إليها، الكتابة حمامة تحلق، فتخلف في السماء سحابات بيضاء، تمطر على البلاد الفقيرة، وتورق الورد في الحدائق وفوق الأسطح، وتلون ملابس البنات الذاهبات إلى المدرسة بالسماوي المبهج.
الكتابة تخلق اللغة، تعيد صياغتها، استخدامها، نحتها، تشكيلها مثل قطعة صلصال في يد طفل. لم تتطور اللغة إلا بفضل الكتابة. لم نحافظ على اللغة إلا بفضل الكتابة. ما الذي حفظ تراث الأدب الجاهلي، واللغة الهيروغليفية، واللاتينية؟ هل يتوجب على الإنجليزية أن تنحني شكرا لشكسبير؟ كيف يمكن للإغريقية أن تشكر هوميروس وإلياذته والأوديسا؟
الكتابة اختيار للطريق الصعب؛ فباموق ودع سعادته من أجل الكتابة، راضيا بذلك، وهو يعرف أن الكاتب يدفع الثمن، لكنه في المقابل يحصد الثمن. لا أتكلم هنا فقط عن الخلود، والجمهور، لكني أتحدث عن الانتصارات الصغيرة، عن السعادة بانتهاء نص، عن الفرحة الغامرة بصورة جديدة، عن عملية الخلق التي يمارسها مع كل نص، عن رغبته في الحياة حتى يكمل نصا آخر، عن شعوره بأنه يقوم بغاية إنسانية، تقول الشاعرة فيسوافا شيمبوريسكا: «الشعر غاية إنسانية بالدرجة الأولى، ويكفيني أن أستمر في كتابة الشعر حتى مماتي.»
كل كاتب عندما تسأله: لماذا تكتب؟ سيجيب بطريقته؛ جالسا أو واقفا أو نائما، متواضعا أو متعاليا، أطال أم قصر. يقول جارثيا ماركيز: «أكتب ليحبني أصدقائي.» ويشرح جورج أمادو: «أكتب لكي يقرأني الآخرون، ولكي أؤثر فيهم؛ ومن ثم أستطيع المشاركة في تغيير واقع بلادي وحمل راية الأمل والكفاح.» ويبرر جورج أورويل الأمر ب «الرغبة في رؤية الأشياء كما هي، بالعثور على الوقائع الحقيقية وحفظها من أجل الأجيال القادمة.» أما نجيب محفوظ فلأمر آخر: «أولا كتبت للاستمتاع الشخصي، وبعد أن أخذت موضوع الكتابة مأخذ الجد، بدأت أحلم.»
الكتابة إذن تغير الواقع وتحمل راية الأمل والكفاح، كما أنها توضح الأشياء وتحفظها للمستقبل؛ فإذا كان يقال: إن التاريخ يكتبه المنتصرون، فيمكننا أن نقول: إن الكتابة الإبداعية هي التاريخ الذي يكتبه البسطاء والعاديون، المهزومون من مجتمعاتهم وظروفهم وحيواتهم، ويسعون للانتصار من أجل حياة أفضل. الكتابة هي بوابة الحلم كما رأى نجيب محفوظ، بل الكتابة تسعى لتحقيق هذا الحلم.
يمكنك أن تعتبرني منحازا، لكني أقول لك: الكتابة هي ذواتنا التي لم نتعرف عليها إلا بفضل الكتابة. الكتابة تمنح الحياة للحياة. الكتابة هي الحياة.
دوائر الكتابة المغلقة المتوازية
Halaman tidak diketahui