فخاف أن يكون قد اعتزم الذهاب إلى بلبيس وتنفيذ مكيدته على حين غفلة، فجعل يفكر في أمره، ويتردد بين أن يسير إلى بلبيس فيطلع سيدته على ما علمه من أمر يوقنا، أو أن ينتظر حتى يرى عمرا، وفيما هو في تفكيره التفت زياد إليه وقال: «مالي أراك حائرا في أمرك؟» قال: «إني خائف من يوقنا ومكيدته، وأخشى أن يسير إلى بلبيس وينفذ مكيدته على غرة.» فقال: «إذا كنت ترى ذهابك الآن فافعل، وعلي أنا أن أرى عمرا وآخذ العهد منه، وأبعث به إليك إما كتابة أو شفاها.»
فارتاحت نفس مرقس إلى هذا الرأي وقال: «بورك فيك يا زياد، إني والله لا أنسى لك هذا الصنيع، وأرى أن أبادر بالذهاب حالا، ولكنني أتيت ماشيا، فإذا عدت كذلك أخاف الإبطاء، وربما سبقني يوقنا إليها على خيله، فلا فائدة من ذهابي.» فقال زياد: «أما الخيل فلا يجود العرب بها، فإن العربي يضحي بنفسه لأجل فرسه، ولكننا ربما استطعنا الحصول على جمل، والجمل أسرع من الفرس أحيانا، فهل تعودت ركوب الجمال؟» قال: «لا والله، لم أركبها عمري، ولكني أركبها الآن ركوب المضطر، والاتكال على الله.» ففكر زياد كيف يحصل على جمل، والجند قد ساروا بخيلهم وجمالهم، فنظر إلى الركب الباقي فإذا فيهم بعض الجمال عليها الزاد والخيام، فقال لمرقس: «البث هنا ريثما أعود إليك بالجمل.» ثم تركه وذهب إلى الخيام يجول بينها لعله يرى أحدا يعرفه فلم يعثر على أحد، فأوغل في المضارب، فلاح له عن بعد جمل سائب في البرية، فعلم أنه يطلب المرعى، فحدثته نفسه أن يقبض عليه ويأتي به إلى مرقس خلسة، ولكنه خاف سوء العاقبة، فوقف برهة يفكر في ذلك فلم يجرؤ على السرقة، ثم نظر إلى الجمل فإذا به يوغل في الصحراء ولا يطلبه أحد، فعلم أنه منسي، فعول على اللحاق به، فإذا اعترضه أحد تظاهر بإمساكه وإرجاعه إلى المعسكر، فسار في أثره حتى توارى عن الناس، فأمسكه وعقله، وعاد إلى مرقس وأخبره أن الجمل معقول هناك، وسارا وهما لا يراهما أحد حتى وصلا إلى مكان الجمل، فحلاه وقال زياد لمرقس: «اصعد إلى ظهره وتثبت، فإنك إذا لم تتثبت جيدا سقطت.» وساعده على الركوب، وأوصاه أن يمسك بالرجل جيدا، ولم يكد زياد يرفع رجله عن ساعد الجمل حتى وقف الجمل بغتة، ومرقس لا ينتظر مثل هذا النهوض السريع فهوى على ظهره ووقع على الأرض فشج رأسه وسال دمه.
فصاح: «آه. قد قتلت.» أما الجمل ففر راجعا يطلب المعسكر، فأمسك زياد مرقس وأسنده إلى صدره، وقد خارت قواه وغاب صوابه، فحار زياد وأسقط في يده، وخاف على صديقه الموت، وجعل يمسح له دمه.
وبينما هو على تلك الحال شاهد فارسا عن بعد، علم من لباسه أنه عربي فناداه، فتحول الفارس نحوه مسرعا، وأخرج قطعة من قماش شد بها رأس مرقس، ورفعه عن الأرض، وقال لزياد: أسنده ، ثم ركب فرسه وحمل مرقس أمامه وقد تدلى رأسه على صدره، وساق الجواد قاصدا المعسكر، وزياد يتبعه وقلبه يخفق حزنا على ما أصاب صديقه.
الفصل الثامن
يوقنا وأرمانوسة
فلنتركهم ذاهبين لمداواة مرقس، ولنرجع إلى أرمانوسة وما كان من أمرها، فإنها لبثت في بلبيس بعد مسير مرقس تنتظر عودته بصبر نافد لتعلم حقيقة خبر قسطنطين، فمضى يوم وثان وهي في لهفة وتحرق، لا يهنأ لها طعام ولا شراب، فلما كان مساء اليوم الثاني بعثت إلى بربارة فجاءتها مهرولة، فقالت لها: «ألم يكن من الحكمة يا بربارة أن أبعث بك من قبل إلى أركاديوس لإبلاغه ما نحن فيه، فلعله إذا علم أننا متفقان قلبا وقالبا أسرع إلى إنقاذي من قسطنطين؟ إني أخاف إذا أبطأت عليه الجواب أن يظن بي تغييرا فيتغير، أو يظن بي سوءا فيغضب، فما رأيك؟»
فقالت بربارة: «لا أظنه يستبطئنا إذا تأخر جوابنا أسبوعا؛ لعلمه بصعوبة المراسلات، وأظن أن انتظارنا عودة مرقس أولى حتى نعلم اليقين، لأننا إذا تحققنا قتل قسطنطين أغنانا ذلك عن مشقات جسيمة، ويكون فيه القول الفصل، وإذا ثبت أنه لا يزال حيا باقيا على عزمه عمدنا إلى وسيلة للنجاة، وعلى كلتا الحالين فالرأي لسيدتي، مريني أفعل ما ترين.»
فصمتت أرمانوسة مدة، وكانت متكئة على سريرها فتنفست الصعداء وقالت: «لا أراني قادرة على الفصل في الأمر، فأشيري علي بما ترين.»
فقالت بربارة: «ننتظر إلى الغد، فإذا لم يأتنا مرقس تدبرنا أمرنا، والله يلهمنا ما فيه خيرنا.» فباتتا تلك الليلة وقد صلت بربارة صلاة حارة، ونذرت نذرا لكنيسة المعلقة رجاء إنقاذ سيدتها. أما أرمانوسة فكانت لا تفكر إلا في أركاديوس وقسطنطين، وتقابل بينهما، فيخيل إليها أنهما ملاك وشيطان يمران أمام عينيها. وفي الصباح جاء حاكم بلبيس يطلب مقابلة أرمانوسة في غرفتها، فأذنت له وقد استغربت مجيئه، وهو قلما طلب مقابلتها.
Halaman tidak diketahui