وأثناء الهمسات والابتسامات كان من المسافرين يجولون بأبصارهم في أرجائه، ويودعون كل شيء بأعينهم ويودعون بعضهم بعضا، وقد أحسوا بلذعة؛ إذ سيتركون وجوها قد اعتادوا عليها وألفوها، بل بدا الجرسونات أكثر رقة، والناس ينادون بعضا منهم بأسمائهم وقد عرفوها، ويتبادلون معهم فكاهات سريعة، وهم يوزعون الطعام.
وكان المسافرون أنفسهم خليطا متنافرا، بعضهم سائحون، وبعضهم أجانب عائدون، ولبنانيون، وأروام.
ثم كان هناك بعض مصريين، سبعة من المصريين الذين جمعتهم الرحلة، ولا شيء سواها.
وصحيح أن الرسام العائد من إيطاليا، والذي كان جالسا في ركنه المعهود يمضغ الطعام على مهل تائه لم يكن يبدو عليه أنه مصري، إلا أنه كان كذلك، بل من حي الحسينية بالتحديد. وكان في آخر عشاء أيضا لا زال منطويا على نفسه، ولا زال يحدق في الفتاة التي خلبت لبه، وجعلته يمضي الأيام الأربعة التي استغرقتها الرحلة يلتهمها بنظراته، ويراها، كما رآها أول مرة، أجمل فتاة في الوجود، فلم تقع عينه أبدا على شبيه ولو من بعيد لذلك الجمال، جمال الجهاز الدقيق، الرائع الدقة، الجمال الذي ليس فيه وجه كالقمر، وعينان مثل عيون المها، وشفتان كحبات الكريز، وصدر بارز، وسيقان ملفوفة، وإنما ذلك الجمال الذي لا تنبع الروعة من أجزائه مهما بلغت من سحر، إنما هو كاللحن الموسيقي الفريد، يحس الإنسان بما فيه من عبقرية إذا استمع إليه كله، واستوعبه كله وعاش فيه.
هكذا رآها أول مرة.
وهكذا أحس بها، ثمينة في دقائقها، حتى ليخاف على ملامحها من نظراته، رائعة في كلها، حتى لتروي ظمأ البشر أجمعين إلى الجمال.
وثيابها كانت بسيطة ، بل كان الجمال في بساطتها، بنطلون واسع وبلوزة، وحول عنقها إيشارب بنفسجي عقدته في إهمال بسيط مثير، كان يعبث به الهواء فيتطاير، ويبهت لونه، ويتلاشى وكأنه يستحيل إلى عطر وبنفسج.
ولم يكن أول ما وضع قدمه في الباخرة يحلم برؤيتها، بل ما كان يفكر حتى في دخول المطعم ولا العشاء، كان يومها مثل بقية المسافرين يحس بالانتقال المفاجئ من المدن والجبال والشاطئ إلى البحر والطبيعة الجديدة التي احتوته؛ ولهذا كان يشعر بقلق غامض يمور في صدره، ويدفعه للبحث عن شيء لا يدري كنهه، فراح يجوب الباخرة، ويقف ولا يدري لماذا يقف، ثم يسير ولا يدري أين يسير، ويتفرج على كل شيء، حتى على الفرشة التي ينظف بها البحار ظهر الباخرة، ويفكر في كل شيء، حتى في شيال محطة نابولي الذي لا ريب قد استغفله، ويتلكأ ليسمع حديث البحارة الإيطاليين، وتعجبه نغمة دقات العشاء، وهي تخفت وتعلو وتبتعد، ويذهب هكذا وبلا إرادة إلى المطعم، وهناك يراها، وحينئذ يدرك كنه ما ظل يبحث عنه، ويحس بالقلق الغامض يهدأ، ويصبح كالراحة الأبدية في صدره.
ولم ير شيئا سواها طيلة الأيام الأربعة، وقنع بالتحديق فيها من بعيد لبعيد، وهو يحس بها إحدى معجزات الكون، وينتشي برؤيتها، كما ينتشي برؤية السحاب المضيء، وأنوار القرى المبعثرة على جانبي مضيق مسينا، وهي تبرق في الليل كنجوم الأرض، والبحر العميق الذي لا يهجع.
لم يحاول حتى أن يعرف اسمها، ولا من أين جاءت أو مع من تقيم. ورآها ترقص «الدبكة» مع اللبنانيين، وسمعها تتحدث بالفرنسية مرة، والإنجليزية مرة أخرى، وأحب إنجليزيتها تماما مثلما أحب الفرنسية، وهي تنساب في رقة من بين شفتيها.
Halaman tidak diketahui