وكان يدفع لها على مضض، ووجهه معقود، فأجره كان ضئيلا، ومع هذا فما طالب بزيادة أبدا، فقد كان يضن بكرامته أن تخدش إذا رفض الحج طلبه، وكان قانعا بالمكنة، واضعا فيها كل همه، حتى قطعة الأرض الفضاء الصغيرة التي أمامها ظل يرشها ويرويها ويزرعها حتى أصبحت جنة، وحجرة المكنة كانت كالعروسة، وكان يضن بدنياه المحدودة أن يرشقها واحد بنظرة، أو يستحل لنفسه التطلع إليها أو الجلوس فيها.
وكان الناس يعزون انطواءه على نفسه ومكنته إلى أنه مصاب بداء الكبر؛ ولهذا فأنفه دائما في السماء، بل كان يذهب الذاهبون إلى أنه مريض بالسل، وأنه السبب في اعتداده وفي وجهه الذي لا ينفك.
وذات يوم حدث شيء لم يتوقعه أحد.
فقد فاجأ الأوسطى محمد ابن الحج طه داخل غرفة العدة، وهو يحاول أن يلمس الحدافة الضخمة الدائرة، ورأى الأوسطى أن السير يكاد يلهف ثوبه ويقطعه، فعلق الولد من أذنه وهو يفركها في غيظ بين أصابعه، ثم سحبه إلى الخارج كالعنزة العاصية.
وذهب الولد باكيا منتحبا إلى أبيه، وفار دم الرجل، وجاء مسرعا إلى حيث كان يجلس الأوسطى تحت الخروعة يصنع الشاي. وقال له بوجه أصفر عليه قطرات صغيرة من العرق، وبعينين زائغتين، وشفاه مرتجفة: يا أوسطى محمد، شوفلك شغلة تانية.
ولم يتحرك الأوسطى أو يثور، وإنما ظل ممسكا بالكوز، رافعا بصره إلى الحج، محدقا فيه، ثم قال بعد برهة وبعد أن جاهد ليبتسم حتى اعوج شاربه: بس كده، حاضر.
وشرب شايه على مهله، ثم قام وأوقف المكنة، ولم أشياءه، ومضى.
خرج الأوسطى محمد من هنا، وبدأ الناس يتقاطرون على الحج طه الذي كان لا يزال يرتعش، ويحاولون إرجاعه عن قراره. واستمرت المحاولات دون فائدة، ودون أن يلين قلب الرجل أو يتحرك له ضمير. وانقلب الناس إلى الأوسطى محمد يلحون عليه أن يستسمح الحج، ولكنه كان يرد عليهم وهو ساهم في تصميم أكيد: والنبي لما أحلق فردة من شنبي وأسيب فردة.
ويئس الناس الطيبون من محاولاتهم، فتركوا ما يحدث يحدث، وأمرهم إلى الله.
وتناقش أهل البلدة كثيرا فيما كان، وانتشرت الأقاويل تلوم الحج وتؤنبه، وتقول إنه لو لف الأرض سبع مرات فلن يجد أحدا مثل الأوسطى محمد. وكان الأوسطى يسمع الكلام ويبتسم فهو أدرى منهم بقيمته، فما كان إنسان يعرف مثله أسرار المكنة، فقد رباها على يده، وعرف متى تعصي وكيف تلين، وما هي الدفعة التي تديرها، والضغطة التي تلف حدافتها، ثم الغمزة التي توقفها. كان يعرفها أكثر من نفسه، ويعرف مزاجها وضعفها مثلما يعرف مزاجه وضعفه. وكان واثقا أن الحج سيأتيه حالا وهو صاغر، ويسوق عليه الناس كي يرجع.
Halaman tidak diketahui