Aram Dimashq dan Israel
آرام دمشق وإسرائيل: في التاريخ والتاريخ التوراتي
Genre-genre
يبدو سفر القضاة لقارئه أكثر الأسفار التوراتية تفككا، وافتقادا للحبكة الأدبية التي تجمع أجزاءه وأقاصيصه المتنوعة. ولعل السبب في ذلك راجع إلى غياب الشخصية المركزية التي تشكل بؤرة الحدث، وتجمع الحكايا إلى سياق واحد مشترك. فهنا، لا وجود لزعيم بارز كموسى أو يشوع، ولا لشخصية درامية متكاملة كيوسف، ولا لحدث مطرد يتنامى ويتطور مما رأينا في سفر الخروج. كل ما لدينا عبارة عن مجموعة أقاصيص غير مترابطة، ولا تؤدي واحدتها إلى الأخرى مثلما تتماسك قصص الآباء. إن كل ما يسوغ جمع هذا الحشد من الحكايا والأخبار مع بعضها في سفر واحد هو انتظامها في إطار أيديولوجي مفروض عليها من الخارج بشكل قسري؛ فبنو إسرائيل يذلون ويهانون كلما تركوا عبادة الرب، والتفتوا إلى عبادة الآلهة الكنعانية، ثم يستريحون من قاهريهم كلما ذكروا ربهم وآبوا إليه. وبذلك تستبدل العقدة الأدبية بعقدة أيديولوجية لاهوتية لم تفلح في لملمة أجزاء السفر.
معظم هذه الأقاصيص كانت على ما يبدو حكايا شعبية فلسطينية متداولة خلال العصر الفارسي، انتقاها ورتبها المحررون في تسلسل زمني غير مطرد بالمفهوم التاريخي لتسلسل الأحداث، وذلك من أجل ملء الفترة الزمنية القائمة بين دخول الإسرائيليين أرض كنعان وقيام المملكة الموحدة بعد ذلك بقرنين من الزمان. وبما أنه من الصعب إعطاء لمحة عامة عن قصص وأخبار عصر القضاة جميعها، فإنني سأكتفي بتلخيص قصتين تعطيان فكرة واضحة عن ذلك النوع من قصص القضاة، وعن المنظور الأيديولوجي الذي تتحرك فيه أحداثها. الأولى قصة بنت يفتاح الجلعادي، والثانية قصة شمشون.
لقد «عاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب، وعبدوا البعليم والعشتاروت وتركوا الرب ولم يعبدوه، فحمي غضب الرب على إسرائيل وباعهم بيد الفلسطينيين وبيد بني عمون ثماني عشرة سنة، جميع بني إسرائيل الذين في عبر الأردن في أرض الآموريين الذين في جلعاد.» فأعلن بنو إسرائيل توبتهم وأزالوا الآلهة الغريبة من وسطهم، وعبدوا الرب ودعوه أن يبعث فيهم مخلصا يريحهم من بني عمون. وكان يفتاح الجلعادي ابن امرأة زانية، طرده قومه من وسطهم، فخرج إلى الفلاة وصار رئيس عصابة من الأفاقين ، واشتهر ببأسه وجبروته. ولما لم يجد الجلعاديون رجلا مقداما يترأس عليهم لمحاربة العمونيين؛ جاءوا إلى يفتاح طالبين منه العودة إليهم، وعونهم على عمون. فاستجاب يفتاح مشترطا أن يرئسوه عليهم إذا نصرهم على خصومهم، فأجابوه إلى ذلك. فكان روح الرب على يفتاح ومشى إلى عمون بقواته. وقبل المعركة الفاصلة نذر يفتاح للرب أضحية بشرية يذبحها ويصعدها محرقة، واختار أن تكون هذه الأضحية هي أول شخص يخرج لاستقباله ولقائه عند باب بيته بعد عودته منتصرا. فدفع الرب بني عمون ليد يفتاح، فشتت جيشهم وملك أرضهم. ولدى عودته إلى بيته كان أول خارج للقائه ابنته الوحيدة، التي قابلته بالرقص والغناء والدفوف. فصرخ يفتاح لرؤيتها وبكى وأخبرها بنذره، فقبلت الابنة نذر أبيها لأن الرب أعانه على أعدائه، ولكنها طلبت مهلة شهرين لتذهب إلى الجبال مع صويحباتها وتبكي عذريتها. وكان عند نهاية المدة أنها عادت إلى أبيها، الذي وفى بنذره الذي يتضمن الذبح والحرق (القضاة، 11).
وتبتدئ قصة شمشون باللازمة المعادة والمكررة: «ثم عاد إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب ... إلخ.» يلي ذلك مقدمة تستخدم عناصر صارت معروفة لنا في القصص التوراتي. فهناك رجل من عشيرة دان اسمه منوح وزوجته عاقر، فتراءى ملاك (= شبح) الرب للزوجين وهما في الحقل، ولم يعرفاه، فبشرهما بغلام يكون نذيرا للرب، ويخلص شعب إسرائيل الذي يضطهده الفلسطينيون. فدعاه منوح إلى الغداء ظنا منه أنه من رجال الله الصالحين، وقام ليذبح جديا، ولكن الضيف قال له أن يصعد الجدي محرقة، وعندما صنع منوح المحرقة وصعد لهيبها عن المذبح؛ صعد الضيف في اللهيب نحو الأعالي. فسقط الزوجان على وجههما، وقال منوح: «موتا نموت لأننا قد رأينا الله ...» ثم ولدت المرأة ابنا ودعت اسمه شمشون. فكبر الصبي وباركه الرب، وابتدأ روح الرب يحركه، فاشتهر بقوته البدنية الخارقة، التي كانت تعينه أحيانا على قتل الأسود بيديه العاريتين، وشق الواحد منها نصفين.
رأى شمشون امرأة فلسطينية من أعداء قومه فأحبها، وطلب من أبويه أن يطلباها من أهلها، فوافقا بعد معارضة وممانعة، ووافق أهل الفتاة من طرفهم على الزواج. وكان على شمشون أن يحضر بعد أيام إلى منزل عروسه ليصطحبها إلى بيته، ولكن سوء تفاهم بين الطرفين منع الأب من إعطائه الفتاة، وزوجها بعد بضعة أيام من غيره. وهنا يثور غضب شمشون، ويبدأ حربه الطويلة ضد الفلسطينيين، ولكنها حرب بلا جنود ولا معدات، قوامها شمشون الذي يقاتل وحيدا على طريقة العصابات مستخدما قوته وحيلته، وجماعات الفلسطينيين، التي كان البطل يفاجئها في الأمكنة والأوقات غير المتوقعة، فيقتل منهم الآلاف بغير سلاح، أو باستخدام أدوات بسيطة كما فعل في إحدى المرات، عندما ضرب ألف رجل بفك حمار ميت. وفي إحدى المرات أمسك شمشون بثلاثمائة ابن آوى، وربط في أذنابها المشاعل ثم أطلقها في حقول الفلسطينيين فأحرقت محاصيلهم. ومال مرة في مدينة غزة إلى بيت امرأة زانية واضطجع معها إلى منتصف الليل، فعرف الفلسطينيون بمكانه، فكمنوا له عند بوابة المدينة بانتظار خروجه عند الصباح، ولكن شمشون لدى وصوله البوابة أمسك مصراعيها الهائلين واقتلعهما، ووضعهما على كتفيه وصعد بهما إلى رأس الجبل. وأخيرا أحب شمشون امرأة ساقطة أخرى اسمها دليلة، وأخذ يتردد عليها. فجاء أقطاب الفلسطينيين وأغروها بالمال لتخون صاحبها، وتعرف منه سر قوته. فصارت دليلة تسأل شمشون عن سر قوته وهو يضللها مازحا، إلى أن أفضى إليها بسره، وعرفت أن قوته في جدائل شعره الغزير، فقصتها له وهو نائم، ودعت الفلسطينيين فأمسكوه وقلعوا عينيه وسجنوه. وكان بعد فترة أنهم اجتمعوا في المعبد ليذبحوا ذبيحة لإلههم داجون، وجاءوا بشمشون ليتسلوا بإذلاله، وكان شعره قد عاد إلى النمو، فأسند شمشون ذراعيه إلى العمودين الرئيسين في وسط المعبد ودفعهما كلا في اتجاه، فسقط المعبد على رءوس الفلسطينيين وقتلهم، ومات شمشون معهم (القضاة، 16).
تعطينا قصة شمشون مثالا حيا على كيفية استعانة المحرر التوراتي بالقصص التقليدي، وطريقته الساذجة في الإفادة منها. فلقد جاء المحرر هنا بقصة بطولية متداولة وأدمجها في سياق أحداث سفر القضاة، بعد أن زودها بمقدمة قصيرة تربطها بالجو العام للسفر ربطا مصطنعا وواهيا إلى أبعد الحدود. فهذا البطل - الذي تقول المقدمة اللاهوتية للقصة إن الرب قد أرسله ليكون نذيرا لله، ويخلص إسرائيل من يد الفلسطينيين - يبدأ حياته الكفاحية بمصاهرة عائلة فلسطينية من أعداء قومه، وهو لا ينقلب على هؤلاء ويبدأ حربه معهم إلا لثأر شخصي. وعندما أزعجت أعمال شمشون الفلسطينيين استعانوا عليه بقومه أنفسهم؛ لأن هؤلاء على ما يبدو لم يروا في شمشون ذلك المخلص المنتظر، ففاجئوه في شق الجبل الذي يأوي إليه، وأوثقوه وسلموه ليد أعدائه. وهنا نقرأ في الإصحاح 15 ما يلي: «فنزل ثلاثة آلاف رجل من يهوذا إلى شق صخرة عيطم وقالوا لشمشون: أما علمت أن الفلسطينيين متسلطون علينا، فماذا فعلت بنا؟ فقال لهم: كما فعلوا بي هكذا فعلت بهم ... فأوثقوه بحبلين جديدين وأصعدوه من الصخرة، ولما جاء إلى لحي صاح الفلسطينيون للقائه، فحل عليه روح الرب فكان الحبلان اللذان على ذراعيه ككتان أحرق بالنار فانحل الوثاق عن يديه.» ونفهم من الحوار الذي دار في هذا المشهد بين شمشون وقومه أن شمشون لا يحارب الفلسطينيين نيابة عن قومه، بل لما فعلوه به، وأن قومه لم يروا فيه إلا رجل عصابات متمردا، يجب وضع حد لأعماله التي لا تجدي نفعا، وتجلب المزيد من المضايقة لهم من قبل الفلسطينيين. ثم نجد رجل الله هذا، المنذور لتخليص إسرائيل، يقضي لياليه في بيوت المومسات، إلى أن توصله إلى حتفه واحدة منهن وقع في حبها وصار يتردد عليها حتى دفعته ليد أعدائه لقاء حفنة من الشيكلات. فأية سيرة حياة هذه يرسمها محرر سفر القضاة لمخلص إسرائيل!
النقد التاريخي والأركيولوجي لسفر القضاة
بينما يعمل محرر سفر القضاة على تسلية قارئه، وإعطائه الموعظة الدينية في الوقت ذاته عن كيفية تدخل الرب في الحدث الدنيوي، ينسى القارئ كل مسألة تاريخية متعلقة بذلك العصر، حتى ليظن بأن العالم من حول أولئك القضاة وأعدائهم القريبين قد خلا من كل حدث آخر. ولكن الأمر كما قدمنا منذ قليل غير ذلك تماما. ففيما بين أواخر القرن الثالث عشر وأواخر القرن الحادي عشر، وهي الفترة المفترضة لعصر القضاة، غابت في الشرق الأدنى القديم حضارة، وقامت حضارة جديدة على أنقاضها، انتهى عصر البرونز الأخير ودالت دوله، وقام عصر الحديد الأول بدول وممالك جديدة، وخارطة جديدة للقوى العالمية. لقد انتهت مملكة الحثيين في الأناضول ولم تقم لها قائمة بعد ذلك، وانتهت مملكة ميتاني، وزالت مدينة أوغاريت من الوجود تماما، ثم تبعتها الممالك السورية الشمالية، التي قامت على أنقاضها ثقافة جديدة آرامية حثية، دعيت دولها بالممالك الحثية الجديدة. أما آشور فقد دخلت لأول مرة مسرح الحياة الدولية من بابه الواسع، وأخذت تملأ الفراغ الذي خلفه غياب القوى العظمى التقليدية، فطرد الكاشيون من بابل، وخضع وادي الرافدين بأكمله تدريجيا إلى المملكة الشمالية الفتية. وها هو ملك آشور تغلات فلاصر الأول يقود حملة على بلاد الشام والساحل اللبناني حوالي عام 1100ق.م. تلامس حدود المناطق التي يتسلى سفر القضاة فيها بقصص شمشون. يقول نص حملة تغلات فلاصر: «تنفيذا لأوامر إلهي آشور، فقد قهرت البلدان الواقعة بين البحر الأدنى والبحر الأعلى الذي في الغرب. مضيت إلى لبنان حيث قطعت أخشاب الأرز لبناء معبد آنو وحدد. ثم تابعت التحرك نحو آمورو إلى مدينة سيميرا على مسافة ثلاثة أميال مضاعفة داخل البر.»
18
أما مصر فرغم أنها قد خففت تدريجيا من تواجدها في فلسطين، إلا أنها بقيت محتفظة بنفوذها على بعض المواقع الاستراتيجية، وخصوصا وادي يزرعيل (مرج ابن عامر)، وهو المعبر الرئيسي بين الساحل والمناطق الداخلية. ولدينا من الدلائل الأثرية ما يشير إلى استمرار النفوذ المصري في وادي يزرعيل حتى الهزيع الأخير من القرن الثاني عشر، أي خلال فترة حكم الفرعون رمسيس السادس ، الذي عثر على قاعدة تمثال له في موقع مدينة مجدو.
Halaman tidak diketahui