Pandangan Kritikal Terhadap Masalah Pemikiran dan Budaya
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Genre-genre
وفي مقابل ذلك، يرى أنصار الاتجاهات اليسارية في الفكر الفلسفي أن هذه الكثرة في المذاهب والتيارات الفلسفية، وإن كانت ترضي الذهن لأول وهلة، فإنها تبدو للعقل الفاحص علامة ضعف لا قوة؛ ذلك لأن الفلسفات التقليدية لا تتعدد إلا لأن قوامها فكر خالص يتعامل مع نفسه فقط، وحين يقتصر الفكر على التعامل مع نفسه، ولا يرتبط بواقع يضبطه، أو بحقيقة عينية تكبح جماحه، فعندئذ تصبح كثرة المذاهب وتعدد وجهات النظر أمرا طبيعيا، إن الفكر المنطلق بلا قيود لا بد أن تتشعب مسالكه؛ إذ لا يوجد شيء يقف في وجهه، ويمنعه من أن يسلك أي طريق يشاء، ولكن لنفرض أننا قيدنا هذا الفكر إلى الأرض، وأرغمناه على مواجهة مشكلات ملموسة، وعلى أن يجد لهذه المشكلات حلا قابلا لأن يختبر في الواقع العملي، فهل سيظل هذا الفكر محتفظا بتعدد اتجاهاته؟ من الطبيعي أن التصاق الفكر بالواقع وتقيده به لا بد أن يؤدي إلى القضاء على هذا التعدد؛ إذ يختبر الفكر ذاته من خلال الواقع، ويظل يستبعد أخطاءه واحدا بعد الآخر حتى يستقر على اتجاه واحد لا يحيد عنه إلا في أضيق الحدود.
والواقع أن مسألة كثرة المذاهب وتعددها كانت منذ البداية «لعبة» مسلما بها في الفلسفة، وكان على المشتغلين في هذا الميدان - منذ أقدم عهوده - أن يسلموا مقدما بقواعد هذه اللعبة ويقبلوها على ما هي عليه، وأن يمارسوها بدورهم عن طريق إضافة الجديد من المذاهب، أو تنويع وتفريع القديم منها، ولكن ماذا لو اعترض المرء على قواعد اللعبة ذاتها، وأكد أن الفلسفة ينبغي ألا تتعدد مذاهبها، وأنها يجب أن تستقر آخر الأمر على اتجاه واحد، أو على منهج واحد على الأقل؟ تلك وجهة نظر موجودة بصورة ضمنية في الفلسفة اليسارية؛ فتعدد المذاهب - في نظر أصحاب هذه الفلسفة - ترف لا معنى له، وهو إذا دل على شيء فإنما يدل على أن الفلسفة التقليدية ستظل تبني قصورا في الهواء إلى ما لا نهاية، وأن الفكر - إذ يبتعد عن الواقع وعن المشكلات الفعلية التي يواجهها الإنسان في العالم المحيط به - لن يجد ما يحد من انطلاقه في أي اتجاه يحلو له أن يسير فيه، أما إذا قيد الفكر نفسه بمشكلات حقيقية ملموسة، فسوف يختفي هذا التعدد تلقائيا، ولن تعود هناك سوى فلسفة واحدة، هي تلك التي تصلح منهجا لاستطلاع آفاق عالمنا الحقيقي. (4)
ولكن ما هي النتيجة التي تترتب على تعدد المذاهب في الفلسفة اليمينية التقليدية؟
لقد استطاعت هذه الفلسفة أن تبني لنفسها تراثا ضخما يرجع إلى أكثر من ألفي عام، وظل هذا التراث يتراكم ويزداد تشعبا وتنوعا على الدوام، وكل جديد يظهر في هذه الفلسفة في عالم اليوم، يضاف إلى ذخيرة هائلة من المشكلات والحلول والآراء، ظل الفكر الفلسفي محتفظا بها على مر القرون، وخلال هذا التاريخ الطويل كان الفكر الفلسفي التقليدي يزداد دقة وعمقا بالتدريج، حتى أصبح له أسلوبه الشديد التعقيد، ومصطلحه العظيم الدقة، وتميز بقدرة فائقة على التجريد والتحليل العميق؛ فليس في وسع أحد أن ينكر أن الفلسفة التقليدية قد أفلحت في تكوين جهاز فريد من نوعه من المصلحات والتعبيرات التي تزداد عمقا على الدوام، وما زالت حتى اليوم تزيد هذا الجهاز المحكم دقة وإحكاما.
على أن الفلسفة اليسارية لا تتمتع بميزة كهذه على الإطلاق؛ فهي فلسفة لا تراث لها، «مقطوعة من شجرة» على حد التعبير الشائع، ومن هنا كانت تفتقر إلى القدرة على تقديم المصطلحات الدقيقة وتنويع الحجج العميقة واستخدم أسلوب مرهف حساس لأقل فرق في وزن معاني الألفاظ.
وعلى حين أن الفلسفة اليمينية التقليدية قادرة على النمو والتشعب - في اتجاه العمق - إلى ما لا نهاية، فإن الفلسفة اليسارية محكوم عليها بألا تتحرك في هذا الاتجاه إلا في أضيق الحدود، وأن نظرة واحدة يلقيها المرء إلى كتاب مثل «الوجود والزمان» لهيدجر أو «نقد العقل الديالكتيكي» لسارتر (والكتاب الأخير يميني الشكل وإن كان يساري المضمون، أي إن طريقة مؤلفه في كتابته تنتمي إلى صميم التراث التقليدي اليميني، ولم يكتسبها سارتر إلا بفضل جذور هذا التراث في أسلوبه)، لكفيلة بإيضاح مقدار التعقد الهائل الذي اكتسبه الجهاز اللفظي للفلسفة التقليدية بعد كل ما مر به من التطورات، وهو تعقد لا نجد له أي نظير في الكتابات اليسارية ، بما تتسم به من بساطة شديدة تصل إلى حد السطحية أحيانا.
ومع ذلك فالمسألة في نظر اليساريين ليست مسألة عمق وسطحية، أو تعقد وبساطة فحسب، بل إن هناك عوامل أخرى ينبغي أن يحسب حسابها في المقارنة بين هذين الاتجاهين؛ فالعمق الفكري الذي تتبدى عليه الفلسفات اليمينية، والقدرة المعجزة على استخدام الألفاظ والتصورات والحجج، وعلى التوغل المذهل في التجريد؛ كل ذلك إنما يرجع إلى أن هذه الفلسفة تكون لنفسها عالما قائما بذاته، ظلت تعيش فيه آلاف السنين، فعرفت كل دروبه ومسالكه الخفية، ولكنها لم تعرف مع كل ذلك كيف تخرج من سجن التجريد الذي حبست نفسها فيه؛ فموقف الفيلسوف التقليدي - في هذا الصدد - إنما هو امتداد لموقف «الساحر»، الذي يظن أن كلماته وتعاويذه ستغير الأشياء، مع أن هذه الكلمات والتعاويذ محصورة في عالمها الخاص، ولن يتسنى لها أن تخرج عنه مهما أطال الساحر ترديدها وتكرارها، أما الفلسفة اليسارية فهي في رأي أصحابها تقف من الألفاظ موقف «العالم» الذي لا يستخدم الكلمات إلا لأنها تتصل بالوقائع وتستمد منها وتلخصها، وبالتالي تقدر على التأثير فيها، وقد تكون حصيلته من الألفاظ والتعبيرات - نتيجة لذلك - أضيق نطاقا بكثير، ولكن ذلك إنما يرجع إلى استبعاده للمشكلات الوهمية وللتعبيرات التي ترمي فقط إلى إظهار قدرة العقل على التجريد، واقتصاره في استخدامه للغة على ما يتصل منها بالواقع ويسهم في عملية تغييره. (5)
ولعل أهم الصفات التي تفرق بين مفهوم الفلسفة اليميني التقليدي ومفهومها اليساري الثوري، هو أنها في الحالة الأولى مبحث ذو كيان مستقل، على حين أنها في الحالة الثانية مبحث مندمج في مجالات أكثر واقعية وعينية من المجال الفلسفي التقليدي، وتلك صفة تؤدي إليها المقارنات السابقة كلها، سواء منها ما تعلق بمسألة الأزلية أو التغير، وبمسألة كثرة المذاهب أو وحدتها، وبمسألة تعقد الأسلوب الفلسفي أو بساطته؛ فالفلاسفة التقليديون ينظرون إلى الفلسفة كما لو كانت بناء قائما بذاته، مستقلا عن غيره، وهي في رأيهم مبحث نظري بحت، لا يحتاج إلى الارتباط بأي مجال عملي، بل إن المسائل العملية - كأبحاث الأخلاق والسياسة - إذا كان لها مجال في مذاهبهم الفلسفية فإنما يكون ذلك بوصفها نتائج ضرورية للمقدمات النظرية التي تنطوي عليها تلك المذاهب، وبعبارة أخرى فمدار البحث في الفلسفة التقليدية هو المسائل النظرية، التي تكون بناء متكاملا مكتفيا بذاته، يستطيع إذا شاء أن يستقل عن كل ما عداه.
أما الفلسفة اليسارية فلا تعترف إلا بالمسائل التي تربط الفكر بالمشكلات الفعلية للمجتمع والناس؛ فالمسائل الميتافيزيقية المجردة - كالبحث في الوجود الخالص أو المقولات الشاملة - ليس لها مكان في مثل هذه الفلسفة، وإنما يدور البحث فيها حول مسائل كقوانين التطور التاريخي أو الطبيعي، وقد يزداد تغلغلا في المجال العيني فيتناول مسائل تدخل في مجال علم الاقتصاد السياسي أو علم الاجتماع، ولا شك أن هذا يؤدي إلى تضييق واضح لمجال الفلسفة؛ إذ تقتصر في هذه الحالة على المسائل التي تمس الجوانب العملية مساسا مباشرا، وتستبعد منها كثيرا من المشكلات التي كانت - ولا تزال - تكون جزءا لا يتجزأ من «بضاعة» الفيلسوف التقليدي.
ومع ذلك، ففي مقابل تضييق نطاق الفلسفة على هذا النحو، نجد أنها تشارك - عند أصحاب الاتجاهات اليسارية - في صنع التاريخ وفي تغيير أحوال المجتمع، أي إنها تنتقل من حالة التفكير النظري البحت إلى حالة التطبيق العملي الفعلي، وتضع لنفسها أهدافا تسعى إلى تحقيقها بالفعل، ولا تكتفي بتأملها من بعيد فحسب.
Halaman tidak diketahui