Pandangan Kritikal Terhadap Masalah Pemikiran dan Budaya
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Genre-genre
ولنضرب مثلا آخر لن يشك أحد في أنه يكون جزءا من عيوبنا الأخلاقية الظاهرة، وأعني به النفاق والمجاملة المتطرفة ، وحسبنا أن نفتح صفحات جرائدنا لكي نلمس في أكبر مساحاتها أمثلة لا حصر لها لتلك الظاهرة التي ربما كنا ننفرد بها عن سائر بلاد العالم، الثورية منها وغير الثورية، وأعني بها الإعلانات المدفوعة من الأموال العامة أو الخاصة (والأولى هي الغالبة)، والتي لا ترمي إلى الترويج لسلعة جديدة أو تنبيه الناس إليها، بل تستهدف تملق مسئول أو الدعاية الشخصية لحساب أصحاب الأمر والنهي في الجهة صاحبة الإعلان، هذه الظاهرة الغريبة - التي تمر علينا يوميا دون أن نبدي بها اهتماما - لها في واقع الأمر أخطر الدلالات؛ فكيف يمكن أن يشيع في مجتمع يريد أن يسلك سلوكا ثوريا مثل هذا النفاق العلني الواسع النطاق، ولمصلحة من تؤجر تلك المساحات الشاسعة على صفحات الجرائد في سبيل كتابة كلمات لا يقرؤها أحد إلا من كتبوها، وحتى لو قرئت فلن يستخلص الناس منها إلا دروسا بارعة في التملق الرخيص؟ وهل مما يتفق مع الثورية أن تمتلئ صحفنا بعبارات النفاق الفارغة التي تعود في نهاية الأمر على خزانة الصحف ذاتها بمزيد من الإيرادات على حساب أموال الشعب من جهة، وأخلاقه ومعنوياته من جهة أخرى؟ وهل يحق لنا أن نتحمل هذه الأضرار الفتاكة في سبيل رفع المستوى المادي لجزء من صحافتنا إلى حد لا يتناسب مع التقشف العام الذي ترتضيه بلادنا طائعة مختارة في سبيل أهدافها العليا.
هذا - من غير شك - عيب أخلاقي لا يحتاج إلى مزيد من البيان، ولكن يظل أمامنا السؤال الكبير: وما الحل؟ إنك لا تستطيع أن تعطي الناس دروسا في أضرار النفاق، ما داموا يشعرون بأن هذا النفاق يعود عليهم آخر الأمر بمنفعة، ومن المؤكد أن في الأمر منفعة، وإلا لما انتشرت الظاهرة واستمرت إلى هذا الحد.
وعلى ذلك فالحل يكون - أولا وقبل كل شيء - بالقضاء على كل نفع يمكن أن يعود على مثال هؤلاء المنافقين، ومن الواضح أن حلا كهذا لا يمكن أن يفرضه إلا من توجه إليهم الكلمات المنافقة. ولأضرب لذلك مثلا: فلنفرض أن رئيس مجلس إدارة إحدى المؤسسات قد عاد من الخارج، وامتلأت مساحات من الصحف بتهاني مرءوسيه على سلامة الوصول وتمام الشفاء ... إلخ، عندئذ يقتضي السلوك الثوري الحقيقي منه أن يوجه اللوم - برفق أولا ثم بالشدة إذا تكررت هذه التصرفات - إلى من يعاملونه بمثل هذا النفاق، في هذه الحالة - وفيها وحدها - سيختفي هذا السلوك المعيب لأنه أصبح يحقق عكس الهدف المقصود منه، وذلك دون أن نجد أنفسنا مضطرين إلى تغيير طبائع الناس أو إعطائهم مواعظ أخلاقية. ولكن من الغريب حقا أن شيئا من هذا لا يحدث، وأن هناك نوعا من الخداع المتبادل - المقبول من الطرفين - في حالة النفاق الاجتماعي العلني؛ فالمرءوس ينافق رئيسه عن وعي، والرئيس ينافق مرءوسه عن غير وعي إذ يقبل منه نفاقه وهو عالم أنه مجرد نفاق.
ولنتأمل عيبا آخر من عيوبنا التي نعيش فيها كل يوم، وأعني به الاستعانة بالوساطة، أو «بالواسطة»، هذا العيب المستفحل الذي نضج منه جميعا بالشكوى حين تؤدي ممارسته إلى اكتساب الآخرين منفعة على حسابنا، ونتسابق جميعا إلى الالتجاء إليه إذا كان يؤدي إلى اكتسابنا نحن أنفسنا نفعا على حساب الآخرين.
هذه الوساطة أصبحت تكون جزءا مألوفا من حياتنا إلى حد أننا لم نعد نجد فيها أي غضاضة، بل إنها قد تفشت إلى حد أن من يمتنع - بحكم مبادئه - عن ممارستها أو عن الاستجابة لندائها أصبح يعد في نظر الناس متزمتا، وربما اتهم «بقلة الذوق» و«انعدام المروءة»، ولو حاولنا أن نتتبع جذور هذا العيب لتعددت أمامنا المسالك وتشعبت إلى أبعد حد، ولكن يكفي أن أشير إلى عاملين رئيسيين أعتقد أنهما هما أقوى الأسباب المؤدية إلى حدوث هذه الظاهرة: أولهما قيام العلاقات التي تمس المصالح العامة على أساس من المنافع المتبادلة، وثانيهما امتداد أسلوب التعامل العائلي أو الريفي أو القبلي إلى المعاملات الرسمية التي ينبغي أن تتسم بالطابع اللاشخصي على الدوام، وكلا هذين العاملين لا يعالج بالدعوة الفردية أو بالنصائح الشخصية، بل إنه يحتاج إلى معالجة جذرية؛ فنحن في حاجة ملحة إلى التعود على الأسلوب الموضوعي في التعامل، في حاجة إلى أن نتعلم كيف نفصل بين الأهداف الشخصية وبين العمل الرسمي الذي يعلو على الأشخاص، في حاجة إلى أن نتذكر دائما أن الدولة لا يملكها أفراد، بل يملكها الجميع، وأن حقنا في التصرف في أمورها مقيد بمصلحة المجموع لا بمصلحتنا نحن، ولا يمكن أن تستقر هذه المبادئ في أذهاننا إلا إذا وضعت خطة مرسومة طويلة المدى تهدف إلى استئصال شأفة هذا الداء الذي كاد أن يصبح مستعصيا على كل علاج. وفي اعتقادي أن من المهام الرئيسية لأي تنظيم سياسي في الظروف الحرجة التي نمر بها - والتي تقتضي منا أكبر قدر من الموضوعية الثورية الحازمة - أن يعمل على تنظيم حملة على أوسع نطاق ممكن لكشف الوساطات وفضحها علنا، بحيث يأتي الوقت الذي يخجل فيه المرء من إرسال بطاقته إلى صديقه موصيا بتعيين «حامله» الذي «يهمني أمره» في الوظيفة الخالية، بل يخجل فيه من الجلوس إلى جانب قريبه في مكتبه لكي يقضي له - على الفور - أمرا يستغرق بقية الناس في قضائه أضعاف هذا الوقت، ويبذلون في سبيله أضعاف هذا الجهد، إنه علاج ما أسهله! وما أجمله لو استقرت العزائم عليه! •••
إن الأخلاق المتعلقة بالأمور التي تمس المصلحة العامة - كما قلت - قدوة تنتقل تدريجا من المستويات العليا إلى المستويات الأدنى منها في المجتمع، ومن المؤكد أن المستويات المتوسطة والدنيا تتحمل بدورها نصيبها من المسئولية، وتمارس بدورها شتى ألوان التصرفات التي تكشف عن عيوب أخلاقية جسيمة، وإذا كنا قد ركزنا اهتمامنا - في الجزء الأكبر من هذا المقال - على التصرفات التي تمارسها المستويات العليا؛ فذلك لأنها هي التي تملك مفاتيح الحل، وهي التي ينبغي أن يبدأ منها العلاج، ولكن ذلك لا يحول دون التنبيه إلى بعض مظاهر الأزمة الخلقية في المستويات الأدنى بدورها.
لعل أبرز هذه المظاهر - في المرحلة الحالية من تاريخنا - هو عدم الاكتراث، وهو مظهر سلبي، والإهمال وهو أخطر المظاهر؛ لأنه متعمد ومقصود؛ ففي قطاعات عريضة من الموظفين والعمال، أصبحنا نشكو من تضاؤل الإنتاج، وعدم الاهتمام برفع مستواه، ومن اللامبالاة والرغبة في إبعاد المسئولية عن الذات من أجل إلقائها على أكتاف الآخرين، أي باختصار من انعدام الإخلاص والجدية في العمل، وأصبح من المشاهد المألوفة في حياتنا اليومية أن تدخل إدارة حكومية فتجد نصف موظفيها غير موجودين على مكاتبهم، ونصفهم الآخر يقرأ الجريدة الصباحية أو يشرب القهوة مع زوار، بينما الأعمال معطلة والأوراق مكدسة ودورة العمل لا تكاد تتحرك، وأصبحنا نشكو في كل يوم من ارتفاع نسبة تغيب العمال وادعائهم المرض وانخفاض إنتاجهم وبالتالي انخفاض إنتاج المجتمع ككل.
فهل تنفع في هذا الصدد «توعية » و«دعوة» أخلاقية بحتة؟ هل نستطيع أن نبذل الجهد اللازم لتوصيل نصائحنا إلى هذه الملايين العديدة التي تتجلى فيها ظاهرة عدم الاكتراث أو الإهمال المتعمد؟ من الواضح أن علاجا كهذا مستحيل عمليا فضلا عن كونه غير مجد من حيث المبدأ، ولو شئنا أن نلتمس الأسباب الحقيقية لهذه الظاهرة التي تمثل خطرا داهما على حياة أية أمة؛ لاتضح لنا - دون عناء كبير - أن المواطن لا يكترث بمصالح المجتمع؛ لأنه يشعر بأن المجتمع لا يكترث بمصالحه؛ فهناك عنصر انتقامي مؤكد - وإن كان في معظم الأحيان لا شعوريا - كامن من وراء هذا التكاسل والتراخي وعدم الحرص على المصلحة العامة.
فكيف يمكن أن يعالج عيب كهذا؟ بنفس المنهج الموضوعي الذي كنا ندعو إلى اتباعه في كل الحالات السابقة، نقول إن من واجب المجتمع أن يمد يده إلى هذه الجموع الغفيرة من أبنائه كيما يمدوا هم بدورهم أيديهم إليه، هذه اليد التي تمتد من المجتمع يمكنها أن تقدم إلى الملايين من أبنائه علاجا معنويا وعلاجا ماديا للأزمة التي يعاني منها الجميع، أما العلاج المعنوي فهو أن يشعر الجميع - عن وعي - بأهداف عامة يمكنهم أن يشاركوا فيها مشاركة إيجابية، أعني أن يشاركوا في تحديد هذه الأهداف، ثم في تنفيذها، ثم في تقييمها بعد أن تنفذ؛ فالمواطن الذي يشعر بارتباطه بالمجتمع من أجل تحقيق هدف يقتنع هو ذاته به، لا يمكن أن يظل غير مكترث، أما إذا سار كل شيء في المجتمع دون أن يكون لهذا المواطن وعي بما يدور حوله، ودون أن يعرف قيمة الدور الذي يطلب منه أن يؤديه، ودون أن يسمع أحد صوته في اختيار الأهداف وفي طريقة بلوغها، فلا مفر عندئذ من أن يكون غير مكترث، بل من أن يتعمد الإهمال.
وأما العلاج المادي فهو أن يشعر المواطن بأن المجتمع حريص على ضمان احتياجاته الضرورية في حياته بقدر ما يستطيع، وبطبيعة الحال فإن هذا الحل يمكن أن يؤدي بنا إلى حلقة مفرغة؛ فالمواطنون يتكاسلون لأن المجتمع لا يعطيهم الحد الأدنى اللازم لمعيشتهم، والمجتمع لا يستطيع أن يقدم هذا الحد الأدنى إلا إذا كف المواطنون عن التكاسل وزاد الإنتاج، ولكن لا بد لهذه الحلقة المفرغة من أن تنكسر وإلا كان التدهور مصير المجتمع، ولكي نخطو أولى الخطوات المؤدية إلى انكسارها يتعين علينا أن نقدم دليلا لا مفر من أن يكون في البداية بسيطا غاية البساطة، على أننا نتذكر هؤلاء الناس، تكفي أقل زيادة مادية - في الحد الأدنى للأجور مثلا - لكي تقنع قطاعات عريضة من الناس بأن المجتمع لم ينسهم، وعندئذ سيتذكرون هم بدورهم المجتمع، ولو بمقدار بسيط في البداية، وتبدأ العجلة في الدوران، ولكن في هذه المرة إلى أعلى لا إلى أسفل. •••
Halaman tidak diketahui