Pandangan Kritikal Terhadap Masalah Pemikiran dan Budaya
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Genre-genre
العالم الثالث، والعقل الهارب1
ليس أدل على سرعة إيقاع التغير في عالمنا المعاصر من ذلك التطور السريع الذي يطرأ على التعبيرات التي يشيع استخدامها في اللغة اليومية، بل في اللغة العلمية ذاتها؛ ذلك لأن اللغة - حسب التعبير الذي شاع إلى حد يكاد يقرب من الابتذال - كائن حي متطور، وأساس تطورها هو أن تكون معبرة عن الواقع الدائم التجدد الذي تدخل اللغة في إطاره، ومن المؤكد أن معدل استخدام التعبيرات والمصطلحات الجديدة في اللغة قد ازداد سرعة إلى حد بعيد في العقود الأخيرة، تمشيا مع الأوضاع الدائمة التجدد التي تطرأ بلا انقطاع على حياة الناس، ومع ذلك يبدو أن العقل البشري، في تلهفه على وضع تسميات جديدة لحقائق العالم المتغيرة، لم يكن قادرا في كل الأحوال على أن يحدد مدلول هذه التسميات بدقة، بحيث كان جهده مركزا على تجديد حصيلته اللغوية أكثر مما هو مركز على إيجاد تحديد دقيق لمفردات هذه اللغة الجديدة وتعبيراتها، تاركا هذه المهمة - على ما يبدو - لمضي الزمن وشيوع الاستخدام وقيام الأذهان - تلقائيا - بعملية الانتقاء والاستبعاد التي تفضي في نهاية الأمر إلى ارتباط كل لفظ وكل تعبير بمجال محدد - بقدر معقول من الدقة - من مجالات المعنى.
ولو تأملنا تعبير «العالم الثالث» لوجدناه يرجع إلى عهد قريب ربما كان أوائل الخمسينيات من هذا القرن، فما أظن أن أحدا قد استخدم هذا التعبير خلال الحرب العالمية الثانية أو قبلها، ولقد كانت فترة التحرر السريع الواسع النطاق للبلاد المستعمرة أو شبه المستعمرة في الستينيات الأولى - بوجه خاص - هي التي خلقت واقعا جديدا اقتضى استخدام تعبير ينطبق على تلك الفئة الجديدة من البلاد التي أصبحت - لأول مرة - ذات كيان واع بذاته، ولها وجود يفرض نفسه على مسرح الأحداث العالمية.
على أن تسمية «العالم الثالث» - برغم انتشارها السريع - كانت وما زالت تفتقر إلى تحدد المعنى ووضوح المدلول، ويبدو أن التعبير قد استخدم في البداية كوسيلة مريحة للدلالة على مجموعة من البلاد والمجتمعات التي تتباين ظروفها تباينا شديدا، ثم أدى ذيوعه وتكراره إلى تثبيته على نحو لم يعد من الممكن معه إعادة النظر فيه، لا سيما وأن إعادة النظر هذه ستثير إشكالات معقدة تختفي كلها وراء هذا التعبير الفضفاض، ومع ذلك فإن البحث الجاد في أوضاع «العالم الثالث» - وخاصة في الميدان الثقافي - يحتم علينا أن نتوقف قليلا عند هذه الإشكالات ، التي يمكن أن يؤدي تعمقها إلى إلقاء مزيد من الضوء على أحوال المجتمعات التي يعرض هذا المقال لإحدى مشكلاتها المعقدة.
أول ما يلفت النظر في تسمية «العالم الثالث» هو لفظ «الثالث» هذا؛ فكل ثالث يأتي بعد أول وثان، فما هما الأول والثاني في هذه الحالة؟ لا شك أن المقصود هنا هو النظامان الاجتماعيان الرئيسيان في عالم اليوم، أعني الاشتراكية والرأسمالية، وهنا يتخذ اسم «العالم الثالث» معنى حافلا بالدلالة، فالمقصود منه ذلك العالم الذي يكون نظاما «ثالثا»، لا هو بالاشتراكية ولا هو بالرأسمالية، ولكن هل هذا المعنى مطابق للواقع؟ إن هناك - في مبدأ الأمر - إشكالا نظريا يدور حول إمكان اتخاذ هذا «الطريق الثالث»، فهل من الممكن - في عالم اليوم - الاهتداء إلى طريق غير الاشتراكية وغير الرأسمالية، أو طريق يمزج بين هذه وتلك على نحو يمكن معه تمييزه بوصفه طريقا مستقلا؟ إننا لا نود أن نجيب عن هذا السؤال بنعم أو لا، ولكنا أردنا فقط أن ننبه إلى الإشكال النظري الذي ينطوي عليه اسم «العالم الثالث»، وهو إشكال لا يمكن التفكير فيه بمعزل عن الواقع العملي الذي يثبت أن بلاد العالم الثالث بالذات لم تستطع حتى الآن أن تهتدي إلى هذا الطريق المستقل، وأنها مضطرة دائما إلى الاختيار بين أحد النظامين الرئيسيين، على أنه لما كانت كثير من الدول الناجحة في مناطق العالم التي توصف بهذا الوصف قد اختارت لنفسها الاشتراكية طريقا، ففي وسعنا أن نقول إن تسمية «العالم الثالث» يقصد بها في أذهان المفكرين الغربيين - بوجه خاص - إبعاد بلاد هذا «العالم» عن الطريق الاشتراكي، وتقوية الاعتقاد بأنها لا بد أن تبحث لنفسها عن نظام مخالف، ولا بد أن تشق لنفسها طريقا خاصا بها، بدلا من أن تستفيد من خبرة البلاد التي سبقتها في تجربة الانتقال من التخلف إلى التقدم.
على أن تعبير «العالم الثالث» لا يستخدم للإشارة إلى النظم الاجتماعية فحسب، بل إنه يستخدم أيضا بمعنى حضاري، وربما استخدم أحيانا بمعنى عنصري؛ فهو ينطبق أساسا على بلاد غير أوروبية، بدليل أن بلدا كاليونان لا تدرج ضمن العالم الثالث مع أنها - من حيث مستوى النمو - ليست أرفع من كثير من بلاد هذا العالم، ولكن الموقف يزداد تعقيدا إذا أدركنا أن هذه التسمية تطلق على بلاد أمريكا اللاتينية، بالرغم من أن حضارتها الحالية هي امتداد للحضارة الأوروبية بوجه عام أو اللاتينية على وجه التخصيص، فهل يعني ذلك أن النمو الاقتصادي والاجتماعي هو أساس هذه التسمية؟ هنا أيضا تثار إشكالات أخرى؛ إذ إن كثيرا من بلاد العالم الثالث لا تستحق - إذا قيست بالمعايير المتقدمة - اسم «العالم العاشر»، ولكن بعض البلاد التي تدرج أحيانا ضمن هذا العالم - كالصين عند البعض، والهند عند الجميع - قد بلغت، في نواح معينة على الأقل، مستوى رفيعا من النمو العلمي والثقافي.
على أن الأمر الجدير بالتأمل حقا هو استخدام لفظ عددي أو كمي لتمييز البلاد المنتمية إلى هذه الفئة؛ ذلك لأن هذه الفترة نفسها - أعني فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية - قد شهدت تسميات «كيفية» متعاقبة، بدأت بالبلاد «المتخلفة»، وانتهت بالبلاد «النامية»، وكانت لهذه التسميات الكيفية - على الأقل - ميزة الإيجابية، على الرغم من أنها لم تكن تتصف في كل الأحوال بصفة الدقة والتحديد؛ فصحيح أن صفة «النامية» صفة مضللة إلى أبعد حد؛ لأنها تخلط ما بين الأمر الواجب والأمر الواقع، وتجعل «النمو» صفة لمجموعة من البلاد لا يطرأ على الكثير منها نمو فعلي، وإنما يعد النمو فيها مطلبا واجبا لم يتحقق بعد، ومع ذلك فإن هذه الصفة تحدد على الأقل المقياس الذي ينبغي أن ينظر به إلى هذه المجموعة من البلاد، وأعني به مقياس النمو أو التخلف، أما في حالة التسمية الكمية البحتة - تسمية العالم «الثالث» - فإن طابع الإبهام والغموض هو الذي يحيط بالعالم المسمى بهذا الاسم.
إن كل ما يفهم من وصف هذا العالم بأنه «ثالث» هو أنه مغاير للعالمين المألوفين في المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي فحسب، أما هوية هذا العالم فتختفي تماما وراء التسمية، إنها تسمية سلبية فحسب، تعبر عما لا يكونه هذا العالم بالقياس إلى العالمين «المعروفين » ولا تلتزم بأي تحديد إيجابي لطبيعته، إنها تجعله أشبه ما يكون بالطرف «الثالث» في الصيغة المعروفة للعقود، ذلك الطرف المجهول الذي يمكن أن يكون أي شيء، والذي لا يهم أحدا أن يعرف هويته.
وهكذا فإن من يستخدمون لفظ «العالم الثالث» يريحون أنفسهم من عناء البحث عن صفة أو صفات مشتركة بين هذه المجموعة الشديدة التباين من البلاد والمجتمعات، ومن جهة أخرى فإن من ينتمون إلى هذا العالم يجدون فخرا في تلك التسمية التي تجعل من بلادهم عالما قائما بذاته، مستقلا عن الأنظمة المألوفة، وتخلص أبناء هذه البلاد من الحرج الذي تسببه لهم صفات كالتخلف أو السعي إلى النمو.
ولقد ساعدت هذه التسمية على إخفاء المشكلات الحقيقية للعالم الثالث عن أعين أبنائه، وجعلتهم يركزون أذهانهم على صفة «الاختلاف» التي تتسم بها بلادهم، ويغفلون صفة التخلف أو يتغافلون عنها؛ فهم يعتزون بعدم اندراجهم ضمن النوعين الرئيسيين للأنظمة الاجتماعية المعاصرة، ولكنهم لا يتنبهون إلى أن هذين النظامين قد استطاعا - كل بطريقته الخاصة - أن يحققا لبلادهما قدرا هائلا من التقدم، وأن المشكلة الكبرى أمام بلاد العالم الثالث هي أن تعبر هوة التخلف، قبل أن تكون تأكيد استقلال نظمها الاجتماعية، بل إن الانتماء إلى الاشتراكية - على التحديد - قد أثبت في حالات كثيرة أنه هو الحل الأمثل لمشكلة التخلف بالنسبة إلى هذه المجتمعات، بحيث كانت القوى الداعية إلى استقلال النظم الاجتماعية فيها مشجعة - دون أن تدري - على استمرار تخلفها؛ لأن عقدة النقص والرغبة المفرطة في تأكيد استقلال الذات، هي التي تغلب فيها على الاتجاه إلى التقدم وملاحقة ركب التطور العالمي.
Halaman tidak diketahui