Pandangan Kritikal Terhadap Masalah Pemikiran dan Budaya
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Genre-genre
1
قلت لنفسي - وأنا أتأهب لتدوين خواطري عن أروع حدث علمي وحضاري مرت به البشرية منذ قرون عديدة - راحت السكرة وجاءت الفكرة؛ فقد كنت أريد أن أفكر لا أن أنفعل؛ ولذلك آثرت ألا أكتب عن هذا الحديث فور وقوعه، لقد كان العالم كله مبهورا، وكانت العقول مسحورة بالرحلة التي تجاوز الواقع فيها أقصى حدود الخيال، وكان لا بد لمن يريد أن يتأمل الأمور في منظورها الحقيقي أن يتريث قليلا حتى تهدأ النفوس وتخف حدة الانفعالات، وتعود أنفاس الناس ودقات قلوبهم إلى إيقاعها السوي المنتظم، ويستطيع هو ذاته أن يستجمع شتات أفكاره بهدوء، وبلا انفعال مفرط يبدد طاقة العقل.
ولست أدري هل مضى من الوقت ما يكفي لكي يطمئن المرء إلى أنه يكتب وهو غير منفعل؛ فأغلب الظن أن ما حدث سيظل يلهب خيال الناس طويلا، ولكن الذي أستطيع أن أقرره مطمئنا هو أنني حاولت - بقدر ما استطعت - أن أجمع الخيوط المتفرقة التي تحيط بهذا الحدث الجليل، وأن أتأمله من منظور أوسع، دون أن تنبهر عيناي بوهج الكشف العظيم وحده، فتختفي من حوله عناصر الإطار الذي لا يفهم هذا الكشف إلا من خلاله، وأحسب أن القارئ بدوره قد بدأ يستعيد من رباطة الجأش ما يتيح له أن يستمع إلى حديث هادئ عن حدث لم يعرف الناس من بعده الهدوء.
القمر وسياسة الأرض
لقد كنا جميعا - خلال المرحلة الرومانتيكية التي أعقبت هذا الحدث مباشرة - نؤكد أن هذا نصر جديد للإنسانية كلها، ونردد مع زائر القمر الأول هتافه: إنها خطوة صغيرة لإنسان واحد، ولكنها قفزة هائلة للبشرية! وكان طبيعيا أن يتردد صدى هذه النغمة الجميلة في جنبات عالم مفتون بالإعجاز الذي تحقق، ولكن هل كانت هذه قفزة للبشرية كلها؟ وهل تسمح حقائق العالم الذي نعيش فيه بأن تتشارك الإنسانية كلها في جني ثمار نصر علمي كهذا؟
إن من خصائص التفكير الرومانتيكي - بوجه عام - أنه يتجاهل الحقائق العلمية والأمور الواقعة لا سيما إذا كانت قبيحة، ومن المؤكد أن العالم قد مر - على أثر هبوط الإنسان على القمر - بفترة نشوة رومانتيكية كان يحن إليها منذ أمد بعيد بعد أن ظلت أسلاك البرق لا تحمل إليه - خلال سنين طويلة - إلا أنباء المعارك والمجازر والتسابق على القتل وتوازن الرعب بين طرفين يقف كل منهما مترصدا كل حركة للآخر، في مثل هذا العالم بدت رحلة القمر - في أيامها الأولى - نبأ رائعا من نوع غير مألوف؛ لأنه أول نبأ غير عسكري أو غير سياسي يحتل المكانة الأولى في صحف العالم وإذاعاته، وفي أحاديث الناس داخل بيوتهم وخارجها، ولأنه أول نبأ يتركز فيه اهتمام العالم كله على موضوع يعلو على خلافات المعسكرات السياسية ومشاحناتها، بل يعلو على مشكلات الأرض كلها، وينتقل بعقولنا لأول مرة - وعلى نحو حقيقي لا مجازي - إلى ما يسمو على عالمنا الأرضي.
ولكن النشوة الرومانتيكية لم تدم طويلا، وكان أصحاب الانتصار العظيم هم أنفسهم الذين ذكروا العالم بحقائقه العملية القبيحة مرة أخرى، وهم الذين سكبوا ماء باردا على رءوس الناس بعد أن أسكروها بكشفهم الرائع، فحتى قبل هبوط رواد القمر الثلاثة إلى الأرض، كان الرئيس نيكسون قد بدأ رحلته إلى بعض الدول ذات الوضع الشائك في آسيا وأوروبا، واستقبل رواد القمر وهو في منتصف الطريق إلى رحلته، ولم ينتظر ولو يوما واحدا بعد النصر العظيم، وكان واضحا أنه أراد أن يطرق الحديد وهو ساخن، بل وهو في أتون الفرن، وأنه - بعد تاريخ حافل بالاستقبالات العدائية قل أن تحظى به شخصية عالمية أخرى (خلال مدة نيابته لرئاسة الجمهورية منذ ما يقرب من عشر سنوات) - أراد أن يستغل الانتصار الرائع في نفس لحظة حدوثه، عله يلقى هو وبلاده معاملة مختلفة من شعوب العالم المحرومة، ومع ذلك فقد حملت إلينا الأنباء أن الهتافات العدائية - من أمثال «اقذفوا به إلى القمر!» - ظلت تتردد طوال الرحلة، وربما كان التاريخ الحافل الذي أشرت إليه قد ظل يلاحق صاحبه حتى اليوم ، ولكن الأهم من ذلك هو ما يدل عليه الهتاف نفسه من أن حقائق الموقف العالمي قد عادت وفرضت نفسها على الناس، وأنهم أفاقوا سريعا من النشوة، ولم يستطيعوا - بالرغم من روعة الحدث - أن ينسوا مشكلات عالمنا وصراعاته، وإنما بادروا إلى إدخال الكشف العظيم في إطار الخلافات العالمية السائدة.
والدلالة الواضحة لواقعة بسيطة كهذه هي أن الانتقال إلى القمر لا يمكن أن ينظر إليه - في عصر كهذا الذي نعيش فيه - من منظور إنساني شامل، بل إن الناس لا يجدون مفرا من أن يربطوا بينه وبين صراعات الفترة الزمنية التي يمر بها العالم، وعلى حين أن هذا الحدث العظيم قد أتاح للإنسان - لأول مرة - أن يرى بعينه المجردة كوكبنا هذا وقد بدا كرة صغيرة محلقة في فضاء فسيح، فقد تبين للبشر مع ذلك أنه ليس ثمة مفر من تأمل هذا الفتح الرائع في ضوء الخلافات الجزئية التي يحتشد بها كوكبنا المزدحم المعقد.
خلاصة القول أن غزو القمر في هذا العصر الذي نعيش فيه وفي الظروف التي تم فيها، لا يمكن أن يكون عيدا خالصا للإنسانية، بل هو بالإضافة إلى ذلك مرحلة من مراحل الصراع داخل الأرض نفسها؛ فللحدث العظيم وجهان لا ينفصل أحدهما عن الآخر: وجه إنساني شامل، ووجه سياسي واقتصادي وعسكري تتغلغل جذوره في صراعات العالم في الثلث الأخير من القرن العشرين.
والآن فما الذي نرى لو تأملنا ارتياد القمر من هذين الوجهين معا؟
Halaman tidak diketahui