Pandangan Kritikal Terhadap Masalah Pemikiran dan Budaya
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Genre-genre
ولنضرب لذلك مثلا واحدا: ففي نقد الفكر الغربي لفكرة السببية، يرتكز هذا الفكر على التعقد الذي لا يسمح لنا بإخضاع كل نتيجة لسبب واحد بعينه، على النحو الذي كان سائدا في ظل الفهم الميكانيكي التقليدي لفكرة السببية، إن العقل هنا - بعد أن ظل يطبق فكرة السببية طويلا وبنجاح - يكتشف من المجالات ما يدعوه إلى تجاوزها؛ فهو يبحث عما بعد السببية وما بعد الضرورة دون أن يتخلى عن مبدأ السببية أو مبدأ الضرورة، وفي مقابل ذلك حارب العقل في حضارتنا مبدأ السببية (في أحوال معينة) دفاعا عن الفهم الغائي واللاهوتي للظواهر، ومع ذلك ترتفع أصوات باحثينا فخورة بأن نقد الغزالي لفكرة السببية - مثلا - قد استبق نقد هيوم، وربما استبق الاتجاهات المعاصرة ذاتها، دون أن يتنبهوا إلى أن الغزالي كان ينقد السببية لكي يدعم الغائية، على حين أن هيوم والمعاصرين ينقدون السببية لكي يوسعوا من نطاق العقل العلمي ويضموا إلى مملكته مجالات أرحب. إن الفرق هنا واضح بين أزمة العقل الناجمة عن رغبة العقل في تجاوز ذاته، وبين أزمته الناجمة عن هروب العقل من ذاته وعجزه عن تحقيق مطالبه وارتمائه في أحضان القوى التي تحكم عليه بالقصور الأبدي.
وفي وسعنا أن نعبر عن هذا الفارق تعبيرا آخر، فنقول إن الباعث إلى ظهور أزمة العقل الغربي هو الرغبة في إعطاء العقل مزيدا من «الحرية»، وفي مجال كهذا يكون للحرية معنى مزدوج، وهو رفض القديم من جهة، وخلق الجديد من جهة أخرى، والحق أننا لو حاولنا أن نتتبع السمة المشتركة بين تلك الظواهر المتعددة التي تنتمي إلى مجالات شديدة التباين، والتي تبين لنا من قبل أنها هي التي تؤلف ما يسمى بأزمة العقل في الفكر الغربي، لما وجدنا سمة تعبر عن روح هذه الظواهر جميعا خيرا من سمة الحرية؛ فالعقل يسعى إلى أن تكون له حرية حتى إزاء مبادئه الأساسية وبديهياته المطلقة، وإزاء كل نوع من الإلزام والضرورة العقلية، وهو يحارب كل محاولة لرد الإنسان إلى مجرد جزء من الطبيعة، ويهدف إلى تأكيد طابع الحرية فيه بوصفه مقابلا للضرورة السارية على الطبيعة، وهو يود التحرر من كل ما هو مطلق أو تقليدي أو مألوف، حتى لو كان هذا المألوف هو الشكل الطبيعي للأشياء، وليس أدل على أن مطلب الحرية هو الذي خلق أزمة العقل، وهو الذي يحل هذه الأزمة، من أن طريقة الخروج من هذه الأزمة كانت في معظم الأحيان وضع أنساق أرحب من الأنساق القديمة يستطيع العقل أن يتحرك خلالها بمزيد من الحرية، بعد أن كاد يختنق داخل الأنساق القديمة الضيقة، وفي مقابل ذلك يمر العقل في الشرق بأزمة ليس لها من سبب سوى الرغبة في تبديد حرية العقل وتضييق الخناق عليه؛ فالعقل يعاني من اتجاهات تريد تعطيله أو إلغاءه، زاعمة أنها تفعل ذلك لحساب سلطة دينية تعرف كل شيء، أو لحساب سلطة سياسية قادرة على أن تدبر للناس أمورهم وعلى أن تفكر بدلا منهم، وحين يستمر تعطيل العقل زمنا طويلا، يعتاد الناس إلغاء عقولهم، ولا يجدون أية غرابة في أن تطلب إليهم اليوم أن يتخذوا موقفا مناقضا لما كان يطلب إليهم بالأمس، بل إن الاعتداء على قانون التناقض ذاته لا يعود أمرا مستغربا، وحين يقترن هذا الصدأ العقلي بعامل الخوف من التفكير الحر، فإن العقول تفقد القدرة على ممارسة فاعليتها حتى عندما تزول الأسباب التي تؤدي إلى الخوف. ومجمل القول أن الفارق بين الأزمتين هو الفارق بين عقل يسعى دوما إلى توسيع نطاق حريته، وبالتالي إحكام سيطرته على العالم، وعقل تكبله الأغلال ويشغله الكفاح من أجل تحقيق الحد الأدنى من مطالبه الضرورية.
إن مستوى المناقشات التي تدور في مجتمعاتنا الشرقية حول مشكلة العقل كفيل بأن يكشف لنا عن نوع الأزمة التي نعانيها، أزمة «ما قبل العقل»، أو أزمة العقل الذي يكافح لكي يخرج إلى النور؛ فما زالت مشكلة التوفيق بين العقل والإيمان تشغلنا وتستغرق من جهودنا الفكرية قدرا غير قليل، وما زلنا نجد علماء يحاولون أن يثبتوا أن أحدث الكشوف العلمية لها أساس في النصوص الدينية، ورجال دين يسعون إلى إثبات أنهم مستنيرون لأنهم يسمحون للعقل بالتحرك في الحدود التي يسمح بها الإيمان فقط.
ولقد كان من العوامل التي أثارت هذه المشكلة - في العهود الأولى للمجتمع الإسلامي - أن المسيطرين على مقاليد الأمور (روحيا أو سياسيا) نبذوا الفلسفة على أساس أنها غريبة أو دخيلة، ما دامت يونانية الأصل، وكان من المحتم أن يؤدي نبذ الفلسفة هذا إلى نبذ للعقل ذاته؛ إذ إن خصوم الفلسفة قد خلطوا بين «المصدر» و«المبدأ»، أعني بين المصدر الذي أتت منه الفلسفة - وهو بالفعل يوناني دخيل - وبين مبدأ التفلسف ذاته، أي إخضاع الأمور لحكم العقل والمنطق، ومن المؤسف أن اسم الفلسفة ظل ردحا طويلا من الزمان محوطا بالشبهات، على أساس أنها بدعة دخيلة، ولم يكن ذلك في واقع الأمر إلا استغلالا لمصدرها الأجنبي من أجل تجريح أسلوب التفكير العلمي في ذاته، وحين يوضع الإيمان في كفة والتفكير العقلي الإنساني (وخاصة إذا كان معتمدا على مصادر دخيلة) في كفة أخرى، فإن النتيجة لا بد أن تكون معروفة منذ اللحظة الأولى.
إن مهمتنا ليست على الإطلاق إصدار حكم حول هذه المشكلة، بل إن كل ما نود أن ننبه إليه هو النتائج الحتمية التي يؤدي إليها الاهتمام المفرط الطويل الأمد بمشكلة مثل مشكلة التقابل بين العقل والإيمان؛ ذلك لأن تفضيل الوحي أو الإيمان معناه تفضيل الخصوصية على العمومية؛ فالإيمان خصوصي بطبيعته، والعقيدة بطبيعتها تسري على فئة محددة من الناس، هي فئة المؤمنين، وتصطدم بعقائد أخرى تؤمن بها فئات أخرى إيمانا مماثلا في قوته وحماسته، ولا جدال في أن لدى كل عقيدة ميلا إلى أن تضفي على نفسها طابع العمومية والشمول والوحدانية، غير أنها لا بد أن تجد في مواجهتها عقائد أخرى تدعي لنفسها هذا الطابع ذاته، ومن هنا لا يكون ثمة مفر من أن يظل الإيمان خصوصيا، مهما كانت قوة سعيه إلى العمومية، أما العقل فهو القوة الوحيدة التي لا يملك البشر غيرها حكما مشتركا بينهم، إنه عام وشامل بحكم ماهيته ذاتها، ومن هنا كان تغليب الإيمان على العقل يعني ضمنا انطواء ثقافة معينة على نفسها وتجاهلها للثقافات الأخرى ولحقيقة الاتصال التاريخي والاجتماعي بين البشر، وبطبيعة الحال لم تكن لمشكلة الاتصال هذه أهمية كبيرة في العصور الوسطى، حين لم تكن إنجازات العقل من الضخامة بحيث تستدعي مشاركة الجميع في الجهد العقلي وفي الانتفاع من ثمار هذه الإنجازات، أما في عصرنا الحاضر، فإن الحد الفاصل بين الحياة الخصبة والحياة العقيمة يتوقف على الاختيار بين التقوقع وبين المشاركة في ركب الحضارة العالمية؛ فعناصر النضال المشترك بين فئات هائلة من البشر أصبحت أقوى من أن يمكن تجاهلها بتأكيد خصوصية العقيدة في مقابل عمومية العقل، والأهداف العليا التي يسعى إليها الإنسان المعاصر - كتحقيق العدالة الاجتماعية والسيطرة على الطبيعة وغزو آفاق جديدة في الكون - تحتاج إلى استخدام المعايير العقلية المشتركة، لا إلى انطواء الحضارة على ذاتها بتغليب معاييرها الإيمانية الخاصة.
وقد يجد بعض القراء أن فيما قلته عن استمرار مشكلة التقابل بين العقل والإيمان قدرا من المبالغة، ويستشهدون على ذلك بأن الاتجاه السائد الآن هو التوفيق بين العقل والإيمان، لا تأكيد التقابل بينهما، ولكن الاهتمام بالتوفيق بين أي طرفين يعكس تأكيدا ضمنيا لتقابلهما، ومن المؤكد أننا لم نكن لنبذل كل هذا الجهد في التوفيق لو لم نكن نؤمن بأن كلا من الطرفين يتجه إلى أن يكون مضادا للآخر.
ومن جهة أخرى فإن إلقاء نظرة سريعة عابرة إلى المشاكل التي تشغلنا يكفي لإقناع كل متشكك بأن مشكلة العقل والإيمان - التي تخلص منها الفكر الأوروبي منذ زمن بعيد - ما زالت تشكل جوهر أزمة العقل في مجتمعاتنا الشرقية؛ فالمجتمع يلمس بنفسه - وبصورة واقعية تغني عن كل تبرير - أضرار الإباحة غير المقيدة لتعدد الزوجات وللطلاق، ويدرك أن حقوق المرأة الأساسية - وكذلك حقوق الطفل - تحتاج إلى قدر كبير من الدعم والحماية، ويعرف الأخطار الفعلية - التي تشهد بها تجربته اليومية - لزيادة النسل، ولكنه لا يزال يتخذ من هذه المشكلات كلها موقفا سلبيا يرجع في حقيقته إلى تغليبه لوجهة نظر الإيمان على وجهة نظر العقل في هذه الأمور، ولا بد أن يؤدي مثل هذا الموقف إلى توتر حاد، ربما وصل إلى حد التمزق الصامت، حين يجد الفرد العادي أن تجربته الفعلية (وبالتالي أحكام العقل) تثبت له أن نظام تعدد الزوجات - في صورته الراهنة - يجلب أضرارا اجتماعية لا حصر لها، ويجد من جهة أخرى أن حكم الشرع (أي حكم النص الديني) صريح في هذا الصدد، كما يقول له الفقهاء.
وفي وسعنا أن نضرب أمثلة كثيرة أخرى تثبت أن مشكلة التقابل بين العقل والإيمان ما زالت تقوم في مجتمعاتنا بدور رئيسي في حياتنا الفكرية، وأنها ليست على الإطلاق مشكلة كانت تنتمي إلى فترة تاريخية معينة، وتم حسمها بعد ذلك بصفة نهائية، من هذه الأمثلة تلك المناقشات الطويلة التي دارت - في صدد وضع الدستور الدائم - حول مركز الشريعة الإسلامية كأساس لأحكام الدستور، وأيا كانت النتيجة التي سوف تسفر عنها هذه المناقشات، فإن ما يهمنا هو دلالتها على وجود توتر بين حكم الإيمان، وهو توتر يعبر عن أزمة حقيقية، ولكنها أزمة «ما قبل العقل»، وخلال هذه المناقشات ذاتها ارتفعت أصوات لا حصر لها تنادي بأن سبب هزيمتنا في 5 يونيو هو انحرافنا عن طريق الإيمان، ووجدت هذه الأصوات صدى واسعا بين فئات عريضة من الجماهير، مع أن قليلا من التفكير في أوضاع الطرف الآخر الذي انتصر في 5 يونيو يكفي لإقناعنا بأن هذا الطرف المنتصر هو الذي حكم عليه - بموجب هذا الإيمان ذاته - بالتشرد الأبدي.
وأخيرا فقد يعترض علينا بأن الفئات التي تمثل هذه الأمور في نظرها مشكلات جدية لا تمثل المجتمع كله، وأن هناك إلى جانب هؤلاء من يكرسون حياتهم للعمل العلمي المرتكز على مبادئ العقل وحده، ولكن الواقع أن وجود هذه الفئة ذاتها يزيد من حدة المشكلة ولا يلغيها؛ إذ إنه يمثل تجسيدا حيا للتوتر العام بين العقل والإيمان في المجتمع الواحد، هذا فضلا عن التوتر الخاص بينهما في نفوس كثير ممن كرسوا حياتهم كلها للبحث العلمي الصرف (ارجع إلى شخصية «الدكتور سعيد» في مقالات الأستاذ توفيق الحكيم عن الشخصية المصرية في جريدة الأهرام، أعداد 30 يوليو، و6 و13 أغسطس 1971م )، ونتيجة ذلك كله هي أننا نقيم نظما تعليمية كاملة، تقدم خلاصة العلم الحديث (في حدود الإمكانات المتاحة بالطبع) فوق أرضية من العقلية الغيبية الأسطورية تتنافس مع تعاليم العلم تنافسا صارخا حينا، وتنافسا صامتا رهيبا في معظم الأحيان، وفي هذا التنافس الذي لا يزال العقل فيه يحتل مركزا ضعيفا تكمن أخطر مظاهر أزمة العقل في مجتمعنا.
ولو حاولنا أن نبحث عن الجذور الاجتماعية لهذه الأزمة فلن يكون من الصعب الاهتداء إلى أصولها إذا ما قارناها بالأزمة المماثلة التي مرت بها المجتمعات الغربية في البدايات الأولى للعصر الحديث؛ فالصراع بين القيم العقلية والقيم المرتكزة على سلطة الوحي كان في تلك المجتمعات صراعا بين أسلوب جديد للحياة (اصطلح على تسميته بالأسلوب البورجوازي) وبين الأساليب الإقطاعية الحريصة على التشبث بآخر معاقلها، ولم يكن من قبيل المصادفات أن ينتصر العقل، ويبدأ مسيرته الظافرة في نفس الوقت الذي توطد فيه أسلوب الحياة الجديد، وأخذت فيه النظم الإقطاعية تتداعى واحدا بعد الآخر، ولم تكن انتصارات العقل الساحقة - ابتداء من منظار جاليليو حتى خطوات أرمسترونج وجولات «لونوخود» على سطح القمر - تحدث في فراغ، بل كانت ترتبط على الدوام بتغييرات اجتماعية أساسية تمهد لها الطريق، وتهيئ الجو الملائم لانتفاع البشر بها.
Halaman tidak diketahui