وكانت مصر في الدول العربية بأرباب الرحلات من المحدثين والفقهاء والأدباء والعلماء أكثر اتصالا فكريا بالأقطار الأخرى من معظم الأمصار؛ لتوسطها بين البلدان العربية، وترسل إلى الأصقاع الأخرى ما لا يكلفها حمله كبير عناء من بضائع علمها وفنها وتفكيرها، وإذا هاجر أحد أبنائها فهجرته موقتة، والغريب قد تفتنه فيتخذها مسكنا دائما، وقد كثرت هجرة العلماء إليها من أقطار الأرض بعد القرن الثالث؛ لأن الفتن اندلع لسانها، ولا سيما في العراق والشام، والعلماء أحوج الناس إلى السلام، وكانت مصر ساكنة هادئة بفضل من استولوا عليها في ذاك الدور، ولما خرب المغول بغداد في القرن السابع رحل العلماء منها إلى مصر، على نحو ما جرى لما استولى الأتراك على الأستانة في القرن التاسع فرحل منها إلى إيطاليا بعض علماء اليونان، وكانوا من عوامل نهضتها، وفي رحلات المرتحلين من مصر وإليها ضرب من ضروب تبادل العلم والأفكار، وكانت الجوامع تؤوي هذه الطبقات من المشتغلين، قبل أن تنشأ المدارس في القرن السادس، وما خلت بيوت العلية من الناس في كل محلة ومنزلة من قبول النزلاء على الرحب والسعة، والكرم ما انقطع من مصر في دور من أدوارها؛ ذلك لأن المصري كالعربي يعد الشح مثلبة، وأي مثلبة. وفي قصة المرأة القبطية المشهورة مثال من هذا الكرم الفطري؛ ذلك أن الخليفة المأمون مر بقريتها طاء لنمل (طنامل) لما وافى مصر، فسألته أن يقبل قراها ولما اعتذر بكت بكاء كثيرا وقالت: لا تشمت بي الأعداء ولا تحرمني هذا الشرف الذي تولينيه وعقبي، فنزل عليها برجاله وجيشه، فأطعمتهم من فاخر الطعام ولذيذه. وبعثت إلى الخليفة في الصباح بعشر وصائف مع كل وصيفة طبق، في كل طبق كيس من ذهب فاستحسن ذلك وأمرها بإعادته، فقالت: والله لا أفعل، فتأمل المأمون الذهب، فإذا به ضرب عام واحد كله، فقال: هذا والله أعجب، وربما يعجز بيت مالنا عن مثل ذلك. فقالت: يا أمير المؤمنين لا تكسر قلوبنا ولا تحتقر بنا، فقال: إن في بعض ما صنعت لكفاية، ولا نحب التثقيل عليك، فردي مالك بارك الله فيك، فأخذت قطعة من الأرض وقالت: يا أمير المؤمنين، هذا - وأشارت إلى الذهب - من هذا - وأشارت إلى الطين - ثم من عدلك يا أمير المؤمنين، وعندي من هذا شيء كثير، فأمر به فأخذ منها، وأقطعها عدة ضياع وأعفاها من بعض خراج أرضها.
رأينا العرب ينقلون من دار أعرابيتهم أساس الثقافة العربية على نحو ما جروا في كل قطر فتحوه؛ فيشخص إليها رجال القرآن والفقه والرواة من الحجاز واليمن وفيهم الجهني والفهري والتميمي والتنوخي والمخزومي والمزني والعبسي واللخمي والقرشي والخزاعي والقضاعي والأزدي والحضرمي، ثم صار يغشاها الجرجاني والنيسابوري والمروزي والشيرازي والدينوري والسمرقندي والخوارزمي والبستي والطبري والهمذاني والطوسي والجويني والتبريزي والشهرزوري والقزويني والغزنوي والهروي والخراساني والنسائي والبلخي والبيهقي والإصطخري والأهوازي والسيرافي والبغدادي والإربلي والكوفي والبصري والموصلي والحراني والواسطي والمصيصي والإسعردي والجزري والمارديني والطرسوسي والتفليسي والدمشقي والحلبي والحمصي والبعلبكي والحموي والطرابلسي والنابلسي والصفدي والمقدسي والعسقلاني والأنطاكي والصنعاني والخولاني، ثم الغرناطي والقرطبي والقيرواني والفاسي والتونسي والسوسي والصفاقسي والصقلي والميورقي والصنهاجي والتلمساني، فكان علماؤها والممتازون من رجالها من أصول عربية أو من المستعربة، وبعد حين صرت تسمع باسم الإسكندراني والدمياطي والرشيدي والتنيسي والمحلي والأسيوطي والبويطي والأسواني والطحاوي والطنطاوي والصدفي والبلقيني والبوصيري والإخميمي والسخاوي والقلقشندي والإسنوي والإسنائي والصعيدي والقوصي والبحيري والقليوبي والطوخي والبيجوري والديروطي والشرقاوي والجيزي والجيزاوي والجرجاوي والدشناوي والدمنهوري والفيومي والقفطي والأرمنتي والزنكلوني والمناوي والمنياوي والبلبيسي والأبياري والأدفوي والحوفي والشنطوفي والقنائي والبهنساوي أو البهنسي والأشموني والسمنودي، إلى غيرهم من الرجال الذين نسبوا إلى مساقط رءوسهم فأدركنا لأول وهلة أنهم من صميم المصريين.
عرفنا أن الثقافة التي انتشرت في مصر جمعت بين القرآن والسنة والشعر والأدب، ولما تعينت المذاهب انتشر فقه المالكي والشافعي، ثم فقه أبي حنيفة والفقه الحنبلي على قلة، ثم الفقه الإسماعيلي مذهب الفاطميين من آل البيت؛ انقرض هذا الفقه الشيعي أوائل عهد دولة بني أيوب. وانتشر التصوف أكثر من الفلسفة، وصرف الناس همهم إلى الدينيات، وعدوا من فروعها التصوف ونابذ الفقهاء الفلاسفة، ولكن الأمصار ما خلت في عصر من الأعصار من مفننين وحكماء لو وقع إلينا كل ما دون في هذا الشأن، لعرفنا طبقة كبيرة من هذه الأصناف، فعندنا طبقات المفسرين المحدثين والحفاظ والشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة والأدباء والشعراء والأطباء والحكماء والصوفية، وما سقطنا في تركة السلف على طبقات المصورين والنقاشين والمهندسين والموسيقاريين، بل عرفناهم بالشيء القليل الذي جاء عرضا في الكتب الباقية التي ما كسرت عليهم ، ولو كتبوا هم بأنفسهم عن أبناء فنهم لاطلعنا من مخلفاتهم على أسرار في هذه المدنية التي نمت عنها مصانعهم وتجلت بها هندستهم الجميلة وتراتيبهم التي ما خلت من إبداع، وتم بذلك تاريخ التهذيب العربي وما أنتج من بدائع وروائع. ولا يعقل أن لا يترجم المفننون لرجالهم، والغالب أن مدوناتهم فقدت في جملة ما فقد من ثروتنا العلمية والأدبية في الفتن والثورات والعوامل الأرضية والسماوية.
ولو وقع إلينا ما دونه أرباب الصنائع والفنون كما انتهى إلينا ما دونه علماء الشريعة والأدب والتاريخ، لعرفنا جمهورا نجهله من الناس، وكم من علم اندفن في صدر، ومن فن ما قدره الناس قدره، فزهد الناس فيه، وهذه المصانع التي أبقت الأيام على خطوطها ورسومها في الفسطاط والقطائع وما في جوارهما من القاهرة المعزية من المدارس والجوامع والرباطات والمستشفيات شاهدة على الدهر بما أبدعت تلك العقول والأنامل التي حملت شيئا كثيرا من العلم والعمل، وقد اشتركت الطوائف الدينية الثلاث على السواء في إخراجها للناس، وكان سواد الأطباء والمنجمين والمهندسين من غير المسلمين، وخاصة من اليهود بادئ بدء، فأصبح سوادهم الأعظم من المسلمين في الأدوار التي كثر فيها من انتحلوا الإسلام.
أخذ القوم في القرن السادس ينشئون المدارس، ينزلون فيها كل من يحب طلب العلم، ويغدقون على الدارسين والمدرسين ما يقوم بهم على حد الكفاية؛ بدعة حسنة ابتدعها عقل صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب مصر والشام، وكثرت المدارس بعد ذلك حتى لا تكاد تخلو منها الحواضر الصغيرة، وضاع كثير من أخبارها في جملة ما أتت عليه الأيام؛ فقد كان في قوص في القرن السابع ستة عشر مكانا للتدريس، وبأسوان ثلاثة، وبإسنا مدرستان، وبالأقصر مدرسة، وبأرمنت مدرسة، وبقنا مدرستان، لا جرم أنه كان في المدن الأخرى كالإسكندرية وبلبيس ودمنهور والمنوفية وغيرها مجالس ومدارس لطلب العلم الديني، وعلوم العربية تابعة له ومعينة على تفهمه.
وكان الحاكم بأمر الله الفاطمي أنشأ في سنة 395 دار العلم أو دار الحكمة في القاهرة، فجلس فيها القراء والفقهاء والمنجمون والنحاة وأصحاب اللغة والأخيار ، ورتب فيها قوما يدرسون الناس العلوم، وسبل عليهم خزانة كتب عظيمة فيها من كل فن خبر، وكان من جملة ما يعلم فيها الطب والرياضيات والمنطق، وبقيت نحو 175 سنة عامرة، وعاد الأفضل في آخر أيام العبيديين فأسس دار العلم سنة 571 واستخدم فيها مقرئين، ولم تزل عامرة إلى انقراض الدولة الفاطمية. وكان القائد جوهر الصقلي فاتح مصر باسم الفاطميين أنشأ الأزهر فأصبح منذ عهدهم إلى اليوم مصدر العلوم الشرعية ومباءة الآداب؛ أنشئوه لنشر التشيع، وظل على ذلك طول أيامهم، وكان غرامهم كثيرا في الدعوة لمذهبهم تقرأ على رئيسه، ويسمونه داعي الدعاة، كتبهم بدار العلم، وطبيعي أن يتبع تعليم المذهب تلقين العربية على أصولها؛ لأن البراعة في الشريعة تتوقف على البراعة في فنون العربية والمنطق والجدل والحكمة القديمة.
وغبر الناس في مصر يستفيدون من كل ما تأتيهم به الدولة الحاكمة، والواقع أن كل دولة حكمت مصر، ولو حقبة صغيرة من الدهر، أبقت أثرا من آثار غيرتها على العلوم والصنائع وعنيت بنشر الآداب؛ يتراءى ذلك من النظر إلى المصانع والآثار وما دون المدونون من تاريخ وأخبار، وكان غرامهم ظاهرا بإنشاء المساجد، وقد ضاقت مرة بيوت الأموال من مال الخمس في مصر، فصدر أمر الخليفة ببناء المساجد، واستغنى الناس أيام كافور الإخشيدي ولم يجد أرباب الأموال من يقبل منهم الزكاة، فأمرهم أن يبنوا بها المساجد ويتخذوا لها الأوقاف. وما كانوا يغفلون مع هذا عن بناء القناطر والجسور والعمائر النافعة لجلب السعة إلى المصريين، ولئلا يقل الارتفاع إذا أهمل أمرها. وبعد؛ فمن كان يظن أن دولة الأيوبيين التي خلقت وماتت في الحروب الصليبية وبها كانت الشام ومصر في أمر مريج تعنى أيضا بالعلوم والصناعات وأعمال العمران؟!
هذا والدولة في حالة تقلقل عظيم لدفع صائل أهل أوروبا عن هذا القطر والديار الشامية، وقد وصف ابن جبير في القرن السادس مفاخر الإسكندرية وعد منها المدارس والمحارس؛ أي الأبراج الموضوعة فيها لأهل الطلب والتعبد، يفدون من الأقطار النائية فيلقى كل واحد منهم مسكنا يأوي إليه، ومدرسا يعلمه الفن الذي يريد تعلمه ، وإجراء يقوم به في جميع أحواله، قال: واتسع اعتناء السلطان؛ أي صلاح الدين بن أيوب، بهؤلاء الغرباء الطارئين حتى أمر بتعيين حمامات يستحمون فيها متى احتاجوا إلى ذلك، ونصب لهم مارستانا لعلاج من مرض منهم. وقال في كلامه على مصر والقاهرة: وما منها جامع من الجوامع، ولا مسجد من المساجد، ولا روضة من الروضات المبنية على القبور، ولا محرس من المحارس، ولا مدرسة من المدارس، إلا وفضل السلطان يعم جميع من يأوي إليها ويلزم السكنى فيها، تهون عليه في ذلك نفقات بيوت الأموال، وأنه أمر بعمارة محاضر ألزمها معلمين لكتاب الله - عز وجل - يعلمون أبناء الفقراء والأيتام خاصة وتجري عليهم الجراية الكافية لهم، وذكر غيره أن جامع مصر بين العشائين كان غاصا بحلق الفقهاء وأئمة القراء وأهل الأدب والحكمة، ولا ترى أجل من مجالس القراء به، وأن هذه المجالس كثيرة، وربما لا يكاد يخلو مسجد كبير من مجلس يسمع فيه الناس علما وحكمة وعظة، ويقول المقدسي في الفسطاط: إنه ليس في الإسلام أكبر مجالس من جامعه، وأنه معدن العلماء، وأن نغمة أهل مصر بالقرآن حسنة.
بل من كان يظن أن دولتي المماليك البرية والبحرية، وفي إدارتهما بعض العهدة، تعنيان بالآداب والمعارف على مثال الدول العربية السالفة، حتى كثرت في أيامهم المدارس والجوامع والترب كثرة عجيبة، وارتقى فن البناء وظهرت علائم الترف، وكثر المؤلفون والباحثون، وزادت علاقات مصر بدول الغرب وعلاقاتها بدول الشرق. نعم في أيامهم تنافس الأمراء في تشييد الزوايا، وكانت كل زاوية بمصر معينة لطائفة من الفقراء، وفي عهد بعض ملوكهم تنافس الأمراء والكبراء في بناء المساجد وزادوا وغلوا؛ لأن أمير الوقت كان يغلب عليه الصلاح وحبيب إلى قلبه أن يرى ذلك من رعيته ورجاله، والناس على دين ملوكهم. وما نراه في بعض الأحياء القديمة في القاهرة من قيام الجامع إلى جانب أخيه، هو أثر من آثار هذه العناية، ولو كان اجتمع جماعة على بناء الجامع الواحد بدل اختصاص كل فرد بعمله، لجاء العمران في مصر وغير مصر صورة عظيمة من صور التضامن الاجتماعي، ولكتب البقاء للمصانع الكبرى أكثر من غيرها.
وأكثر ما نفع مصر في علمها وجعل لمعظم مظاهر العقل فيها مظهرا خاصا، أنها تمتعت من العهد الأموي والعباسي بأجمل أيامهما، وكان لها أبدا شبه إدارة خاصة، ولطالما نزعت إلى الاستقلال الجزئي أو الكلي، وباستقلال ابن طولون بها عمرت عمرانا غريبا ما عهدته منذ قرون. ومن أهم ما حفظ لمصر شخصيتها، وأبقى عليها آثارها، قيام صحراء التيه في طريقها إلى بلاد الشرق، فتحامى كثير من الفاتحين اقتحامها من البر، وكان من الصعب اقتحامها من طريق البحر في عصور سفن الهواء، ومن سعادة مصر أن بيت المقدس بعيد عن حدودها، فما غزاها الصليبيون مائتي سنة لاستخلاصه كما وقع في الشام. ومن حسن الطالع أيضا أن أشرار الفاتحين، أمثال جنكيز وهولاكو وغازان وتيمورلنك، ما حدثتهم أنفسهم في التقدم لاحتلالها فنجت من تخريبهم على ما خربوا كل بلد نزلوه من بلاد الإسلام في القرن السابع والثامن والتاسع، ومنها ما دمروه عن آخره ولم يبقوا من أهله ديارا.
Halaman tidak diketahui