أظنكم قد تصورتم الآن على نحو ما مذهب تين في فهم الحياة والأدب، وما كان يحيط به من الأشياء، وأنا معتذر من أني قد أطلت، ولكني محتاج إلى دقائق حتى لا تكون الصورة التي تذهبون بها عن تين مشوهة ناقصة، لا بد أن أقول لكم إن تين بعد هذا كله كان من خصوم الديمقراطية ومن أعداء الثورة الفرنسية؛ لأنه كان يرى الإنسان شريرا بطبعه، والثورة ظرف من هذه الظروف تظهر الإنسان كما فطر شريرا مفسدا، ومن هذه الناحية كان مبغضا لسلطان الجماهير، وهو مع هذا كله من أشد الناس تأثيرا في الانتصار لحرية الرأي، وكتاباته كلها إنما تدور حول حرية الرأي.
هذا الرجل الذي كان ينكر الاختيار وينكر حرية الإنسان ويؤمن بالجبر ويمقت الديمقراطية وينكر سلطان الجمهور ويؤثر الأرستقراطية، والأرستقراطية الإنجليزية خاصة، هذا الرجل الذي كل شيء في ظاهره يدل على أنه من خصوم الحرية، هو ممن مكنوا لحرية الرأي، عندما عرض لكل هذه النظريات ووضعها موضع البحث والمناقشة أثار فيها كل هذه الخصومات، واستباح لنفسه أن يناقش في أشياء لم يكن الناس قد تعودوا إنكارها، ودعا غيره إلى رأيه فأثار الخصومة والجدال، ماذا عمل ؟ إنما فرض حرية الرأي على نفسه وخصومه وأنصاره فرضا، وهو بهذا دفع الفرنسيين والشباب إلى أن يفكروا في كل شيء ويتعمقوا كل شيء، وأباح لهم أن يعرضوا كل شيء للإنكار والشك والرفض إذا دعا الأمر إلى الرفض، فإذا عرفتم أن الشباب الفرنسي في مدة ثلاثين سنة كان ينظر إلى الرجل على أنه أستاذه يشرب كلامه - إن صح هذا التعبير - ويتأثر بآرائه في كل ما يعمل وما يقول، وإذا عرفتم أن كثرة الكتاب الفرنسيين الذين أخذوا ينشئون منذ سنة 1870 قد تأثروا بتين ومذهبه ونظرياته، وهم الذين يكونون الرأي العام - وأريد بالرأي العام الأدبي والعقلي - في فرنسا وأوروبا بعد ذلك؛ إذا عرفتم ذلك، عرفتم أن حرية الرأي إذا كانت قد أنشأها فولتير وأصحابه في القرن الثامن عشر، فقد أتم انتصارها وسيادتها رينان وتين في القرن التاسع عشر.
وأظنني قد استطعت في هذه المحاضرات أن أعطيكم فكرة، لا شك أنها غير واضحة ولكنها مقاربة عن تطور حرية الرأي منذ نشأ العقل الإنساني في العصور اليونانية الأولى إلى أن بلغ هذا العصر الحديث.
أما مصير حرية الرأي منذ الآن، فإني أستأذنكم في أن أقول إني لست شديد التفاؤل في شأنه؛ لأن ما نراه من تطور الحياة السياسية في العالم المعاصر لنا الآن يدل على أن حرية الرأي توشك أن تتعرض لخطر عظيم، وأظنكم تشهدون - كما أشهد - وتلاحظون هذه الأخطار التي تتعرض لها حرية الرأي، لا أقول في مصر، فهي تستمتع بشيء غير قليل منها إذا قيست إلى بعض البلاد الأخرى، وأظنكم لم تنسوا أن بعض الدول الأوروبية المتحضرة التي عملت عملا لا بأس به لتكوين حرية الرأي أخذت تقاوم الآن هذه الحرية، ولم يتحرج وزير من وزرائها من أن يذم العقل وإنتاج العقل، ويصادره ويدعو إلى أن تحرق الكتب تحريقا.
هذه الظاهرة لا توجد في بلد واحد بل توجد في بلاد مختلفة، بل هي توجد بالفعل في بعض البلاد التي انتشر فيها مذهب فولتير وأصحابه.
وقد أخذ يوجد بالفعل ظواهر خطيرة في بلد كفرنسا وإنجلترا، في قوم لا يدعون إلى قبر حرية الرأي، ولكنهم يدعون إلى ما يعرض هذه الحرية للخطر؛ يدعون إلى مخاصمة الديمقراطية ويعلنون فشلها، ويريدون أن يقيموا نظاما يعتمد على السلطان القوي أكثر مما يعتمد على إرادة الشعوب، وقد رأينا النظم التي تعتمد على السلطان القوي وتهدر إرادة الشعوب في غير فرنسا وإنجلترا، وعرفنا أن نتائجها الأولى إيذاء العقل وتضييع حرية الرأي.
وإذا كان لي أن أتمنى شيئا لمصر، فهو أن تكون أقل البلاد تأثرا بهذه الظواهر الجديدة التي من شأنها مصادرة حرية الفرد وحرية الشعوب؛ فليس يعنيني من أمر السلطان أن يكون قويا أو ضعيفا، وإنما الذي يعنيني أن يكفل لي السلطان أن أكون حرا فيما أقول، حرا فيما أعمل، حرا فيما أفكر أيضا.
Halaman tidak diketahui