ونهض العرب في فارس والأندلس وصقلية وإفريقية لاستثمار المعادن، يستخرجونها من مناجمها، ويحسنون تطريقها والانتفاع بها، واستخرج الأندلسيون من مناجمهم الزئبق والتوتيا والحديد والرصاص والفضة والذهب، وأخرج الصقليون جميع ما حوت جزيرتهم من معادن ومنها الفضة والذهب، واستثمر العرب المناجم التي صارت ملكا لهم في بلادهم في الشرق والغرب، واستخرجوا الحديد في خراسان والرصاص في كرمان والقار والنفط وطينة الأواني الصينية ورخام طوربس والملح الأندراني والكبريت، واستخرج العرب ما في الشام من الحمر والحديد والنحاس والصفر والزاج والقلي والفوسفات والمغرة والنيكل والكبريت والطفال والبارود القصبي (السوديوم) وعنوا كل العناية باستثمار مقالع الأحجار والرخام والمرمر، وما كانت عنايتهم قليلة بالحمات والمياه المعدنية، وعلى هذا جروا في كل أرض فتحوها فخضعت زمنا لدولتهم الكبيرة.
قال درابر: ومن عادة العرب أن يراقبوا ويمتحنوا، وقد حسبوا الهندسة والعلوم الرياضية وسائط للقياس، ومما تجدر ملاحظته أنهم لم يستندوا فيما كتبوه في علم الحيل (الميكانيكيات) والسائلات والبصريات على مجرد النظر، بل اعتمدوا على المراقبة والامتحان بما كان لديهم من الآلات، وذلك ما هيأ لهم سبيل ابتداع الكيمياء وقادهم لاختراع أدوات التصفية والتبخير ورفع الأثقال، ودعاهم إلى استعمال الربع والإسطرلاب في علم الهيئة واستخدام الموازنة في الكيمياء مما خصوا به دون سواهم، وهيأ لهم صنع جداول للجاذبية النوعية وعلم الهيئة كالتي اصطنعت في بغداد والأندلس وسمرقند، مما فتح لهم باب تحسين عظيم في قضايا الهندسة وحساب المثلثات واختراع الجبر واستعمال الأرقام العددية في الحساب، وكان هذا كله من نتائج استعمالهم طريقة الاستدلال والامتحان، ولم يقرروا في علم الهيئة لوائح فقط، بل رسموا خرائط النجوم المنظورة في فلكهم أيضا مطلقين على ذوات القدر الأعظم أسماء عربية لا تزال تتردد على كراتنا الفلكية، وقد عرفوا حجم الأرض بقياس درجة سطحها، وعينوا الكسوف والخسوف، ووضعوا للشمس والقمر جداول صحيحة، وقرروا طول السنة، وأدركوا الاعتدالين، ولاحظوا أمورا بعثت نورا باهرا على نظام العالم، واختص علماء الفلك منهم باختراع الآلات الفلكية لقياس الوقت بالساعات المتنوعة، وكانوا السابقين إلى استعمال الساعة الرقاصة لذلك.
وهم الذين أنشئوا في العلوم العملية علم الكيمياء وكشفوا بعض أجزائها المهمة كحامض الكبريتيك وحامض النتريك (الفضة) والغول، وهم الذين استخدموا ذلك العلم في المعالجات الطبية؛ إذ كانوا أول من نشر تركيب الأدوية والمستحضرات المعدنية، وهم قرروا في الميكانيكيات نواميس سقوط الأجسام، وكان لهم رأي جلي من جهة طبيعة الجاذبية، ورأي سديد في القوات الميكانيكية، واصطنعوا في ثقل الموائع وموازنتها الجداول الأولى للجاذبية النوعية، وكتبوا مقالات في عوم الأجسام وغرقها في الماء، وأصلحوا في علم البصريات خطأ اليونان بكون الشعاع يصدر من العين ويمس المرئي فيظهره، وقالوا إن الشعاع يمر من المرئي للعين، وفهموا مساس انعكاس النور أو انكساره، وكشفوا طريق الشعاع المنحني في الهواء، وبرهنوا على أنا نرى الشمس والقمر قبل الشروق وبعد الغروب، قال: والذي يدهش كثيرا أن نتصور أشياء نفاخر بأنها من مواليد وقتنا ثم لا نلبث أن نراهم سبقونا إليها؛ فتعليمنا الحاضر في النشوء والارتقاء كان يدرس في مدارسهم، وحقا، إنهم وصلوا به إلى الأشياء الآلية وغير الآلية؛ فكان المبدأ الرئيسي في الكيمياء عندهم، والمظهر الطبيعي للأجسام المعدنية.
ويقول العلامة سنيوبوس: جرى أمراء العرب على قاعدة ري الأرضين بفتح الترع، فحفروا الآبار وجازوا بالمال الكثير من عثروا على ينابيع جديدة، ووضعوا المصطلحات لتوزيع المياه بين الجيران، ونقلوا إلى إسبانيا أسلوب النواعير تمتح الماء، والسواقي التي توزعها، وإن سهل بلنسيه الذي جاء كأنه حديقة واحدة هو من بقايا عمل العرب وعنايتهم بالسقيا، ونظم العرب ديوان المياه الذي كان يرجع إليه في مسائل الري، وكانت طريقتهم في ري العراق تشبه أعمال الري في مصر وأستراليا والولايات المتحدة في عهدنا هذا، واستعملوا جميع أنواع الزراعة التي وجدوها في مملكتهم وحملوا كثيرا من النباتات إلى صقلية وإسبانيا وربوها في أوروبا فأحسنوا تربيتها حتى لتظنها متوطنة متبلدة، وذلك مثل الأرز والزعفران والقنب والمشمش والبرتقال والكباد والنخل والهليون والبطيخ الأصفر والعنب والعطر والورد الأزرق والأصفر والياسمين بل القطن والقصب.
وظفر العرب في الشام وفارس بصناعات قديمة نقلت إلى جميع البلاد الإسلامية فتكملت ومنها نشأت صناعة أوروبا الحديثة. وذكر سنيوبوس أنواع هذه البضائع التي نقلوها من الشرق إلى الغرب ولا سيما إلى الأندلس وقال: عاشت الشعوب في بلاد العرب الواسعة كما كانت الحال على عهد الرومان من أقصى المملكة إلى أقصاها بسلام وراحة، يتقايضون غلات أرضهم ومصنوعات معاملهم، ويرحلون إلى الهند والصين يبتاعون مصنوعات الأمم الصناعية ليحملوها إلى الشعوب البربرية في أوروبا ينقلونها في البر والبحر. وذكروا أن العرب أحرزوا خصل السبق دون غيرهم في مضمار التجارة، ورقوا الصناعة البحرية، ووضعوا قوانين لحقوق الملاحة، واقتبسوا استعمال إبرة السفينة من الصينيين، وضبطوا التجارة بفن مسك الدفاتر؛ أي ضبط، وشرحوا الكفالة، وأنشئوا المصارف للفقراء، ووضعوا السفاتج (الكمبيالات) المألوفة وردود التمسك (البروتستو)، وبعثوا الحركة في مصارف الغرب الحديثة. وكانوا حيث نزلوا يمهدون السبل، ويعمرون المرافئ والفرض، ويصلحون الفنادق والرباطات، ويرتبون سير القوافل. وكانت المدن الإسلامية أوساطا تجارية كبرى.
واستخرج علماء العرب من كتب الطب اليوناني الطب التجريبي، وهو طب العقاقير والحبوب، وأعظم ما غلب على العرب من العلوم علم الكيمياء برعوا به وطبقوه على الزراعة والصناعة، ولهم المنة على جميع الأمم بأرقامهم العربية، وباستنباطهم فن الجبر والمقابلة، وتهذيبهم الهندسة وأعمالهم الجميلة الفلكية في أبحاث سمت الشمس ومعادلة الليل والنهار والبقع الشمسية، وكشف كيماويوهم وأطباؤهم خواص الغول والنشادر وحامض الأزوت والمياه المعدنية، وأدخلوا في كثير من أدويتهم مواد من نبات بلادهم كالكافور والراوند والسنامكي. وهم أسرع الناس لتدوين أنسابهم وملاحمهم وأبطالهم ورواية أشعارهم والكتابة في فلسفة التاريخ وعلوم الاجتماع. وتوصل العرب إلى إثبات تناسب جيوب الأضلاع لجيوب الزوايا المقابلة لها في أي مثلث كروي، ووضعوا هذه القاعدة أساسا للطريقة التي سموها الشكل المعين في حل المثلثات الكروية. وعرفوا حامض الكبريت استخرجوه من الزاج بواسطة التقطير، وعرفوا ماء الفضة والقلي، وطرق إذابة الذهب وملح النشادر وحجر الكي والسليماني، وكانوا يطبقون ما كشفوه على الطب والصناعة والحرب، ويعرفون صنع الصواريخ؛ أخذوا سرها من الروم وعملوا البارود للمدافع وربما كان ذلك قبل الصينيين، ولكن كان قبل الأوروبيين على التحقيق، فكانت جيوشهم تستعملها منذ القرن الثالث عشر. وعني العرب بصنع القاشاني، وغيروا طرق صنعه وأشكاله. واشتهرت في القرون الوسطى الأواني الزجاجية والمصابيح العربية الملونة التي انتقلت من الشام إلى معامل البندقية ونسجت على منوالها، وكذلك تعلم البنادقة صنع المرايا وكانت تصنع في صور، ومن البندقية انتقلت إلى أوروبا، ونقل من الشام والعراق إلى الأندلس صنع السيوف الدمشقية والثياب على أنواعها ومنها «الدمسكو» نسبة إلى دمشق و«الموسلين» نسبة إلى الموصل وهو الشفوف، ثم عرفت هذه الأصناف في بلاد الغرب.
كان الفلك والرياضيات والعلوم الطبيعية تقرأ في أوروبا في كتب العرب، ومن كتبهم في العلم الطبيعي والرياضي والفلك والكيمياء ما فقد أصله العربي وبقيت ترجمته اللاتينية، وجميع المادة الطبية التي أخذها الغربيون من العرب بقيت إلى القرن السابع عشر هي المعول عليها وحدها. قال سنيوبوس: ويتعذر الحكم في تحديد الطرق التي دخل منها إلى أوروبا اختراع من اختراعات الشرق، وفيما إذا كان انتهى إلينا من طريق الصليبيين في فلسطين أو من طريق التجار الإيطاليين، أو جاءنا من عرب صقلية أو من المغاربة في إسبانيا، بيد أن الحساب يمكن تقديره بما نحن مدينون به للعرب، وإن كان هذا الحساب مما يطول شرحه. فقد أتتنا من العرب؛ أولا: الحنطة والهليون والقنب والكتان والتوت والزعفران والأرز والنخيل والليمون والبرتقال والبن والقطن وقصب السكر. ثانيا: معظم صناعاتنا في التزيين كالثياب الدمشقية القطنية والجلد المدبوغ وثياب الحرير المزركشة بالفضة والذهب والشاش الموصلي والشفوف والحبر والمخمل (القطيفة) والورق والسكر وأنواع الحلواء والأشربة. ثالثا: مبادئ كثير من علومنا كالجبر وحساب المثلثات والكيمياء والأرقام العربية التي اقتبسها العرب من الهنود فسهل بها الحساب مهما كان صعبا.
ولقد جمعت العرب وقربت جميع الاختراعات والمعارف المأثورة عن العالم القديم في الشرق (كيونان وفارس والهند والصين) وهم الذين نقلوها إلينا، ودخل كثير من الألفاظ في لغاتنا، وهي شاهدة بما نقلناه عنهم، وبواسطة العرب دخل العالم الغربي الذي كان بربريا في غمار المدنية، فإذا كان لأفكارنا وصناعاتنا ارتباط بالقديم، فإن جماع الاختراعات التي تجعل الحياة سهلة لطيفة قد جاءتنا من العرب. وقد أخذ الأوروبيون من العرب صنع الجوخ في جملة ما أخذوا من الصنائع، وكان أهل بيزا الإيطاليون ينزلون مدينة بجاية في الجزائر فتعلموا منها صنع الشمع ومنها نقلوه إلى بلادهم وإلى أوروبا.
وقال سنيوبوس أيضا: وكان عبد الرحمن الثالث الأموي على اتصال دائم بأمراء إسبانيا وفرنسا وألمانيا وممالك الصقالبة. وكان القصر الملوكي في طاوزة من بلاد فرنسا صورة من صور قصور الخلافة في قرطبة، يتبارى فيه الشعراء وتقوم فيه للآداب سوق. ولما انتقل أحد أمرائهم ليتولى عرش فرنسا (سنة 999)، أدخل ما أخذ عن العرب تبدلا حقيقيا في باريز من حيث الأخلاق واللغة. وكان ملوك فرنسا من أهل السلالة الثالثة يقلدون العرب في كل شيء، وتعلم الفرنسيس أشياء كثيرة في حملة سان لوي الصليبية التي بقيت عدة سنين في الشرق، وفي الحروب الصليبية تعلم الفرنسيس صنع الورق من دمشق بواسطة أسيرين منهم قضيا زمنا فيها فلما عادا إلى بلادهما نشرا فيها هذه الصناعة المفيدة. وكان لكثير من ملوك أوروبا حرس من العرب إلى عهد قريب ولا سيما إيطاليا وفرنسا. وذكر سيديليو أن بعض الإفرنج زعموا أن العرب لم يعملوا في تقدم الصنائع شيئا مع أنهم على ما قال العارفون برعوا في جميع الفنون الصناعية، واشتهروا عند سائر الأمم بأنهم دباغون سباكون جلاءون للأسلحة نساجون أصناف الثياب ماهرون في الأشغال التي تصنع بالمنقاش والمقراض، ويؤيد علو كعبهم في هذه الفنون سيوفهم الباترة ودروعهم الخفيفة الصلبة، وبسطهم ذات الوبر، ومنسوجاتهم من الصوف والحرير والكتان، وما كشمير هذه الأيام إلا نموذجات دالة على تلك الصناعة.
ولئن كانت خزائن الكتب والمخابر والآلات هي مواد التعليم والبحث اللازم، ولكنها على ما قال لبون ليست إلا أدوات، وقيمتها مناط بالطريقة التي تستعمل لها، فقد يتلقف المرء علم غيره وهو عاجز عن أن يفكر بنفسه ويوجد شيئا، وأن يكون تلميذا دون أن يوفق إلى أن يصبح أستاذا. أما العرب فبعد أن كانوا تلاميذ سذجا أساتذتهم تآليف اليونان، أدركوا للحال أن التجربة والملاحظة تساويان أكثر من أحسن الكتب. هذه الحقيقة اليوم معروفة لا يعد العمل بها بدعا، ولم تكن كذلك في الدهر السالف؛ فقد ظل علماء القرون الوسطى يشتغلون ألف سنة قبل أن يدركوها. ينسب الناس إلى باكون قاعدة التجربة والملاحظة وهما الأصل في أساس البحث العلمي الحديث، بيد أن الواجب أن يعترف اليوم أن هذه الطريقة كلها هي من مبتدعات العرب. وقال بهذا الرأي جميع العلماء الذين درسوا كتبهم ولا سيما هومبولد؛ قال: «إن العرب بلغوا في العلم العملي درجة لم يكن يعرفها أحد من القدماء.»
Halaman tidak diketahui