وقوله:
ولقد علم المنجم ما يو
جب للدين أن يكون صحيحا
من نجوم نارية ونجوم
ناسبت تربة وماء وريحا
فيتجلى له أن العرب في ذلك العصر ارتقوا بعقولهم إلى البحث عن وجود بشر في الأفلاك وإلى البحث عن عناصر الأفلاك وتربتها.
وكادوا يعرفون في الأندلس الجراثيم، وكانت وقايتهم من الأمراض تكاد تشبه وقاية أهل العصور الحديثة على ما ذكر ذلك ابن خاتمة في رسالته في الوباء، وسبقوا إلى معرفة مرض النوم وسموه النوام، وشرحوا أعراضه، وعرفوا الطباعة فألف أحد الأندلسيين كتابا في الخواص وصنعة الأمدة وآلة الطبع، وكان أحد وزراء الناصر الأندلسي من أهل المائة الرابعة «ينفرد بالولايات فتكتب السجلات في داره ثم يبعثها للطبع فتطبع وتخرج إليه، فتبعث في العمال وينفذون على يديه»؛ أي إن الأندلسيين عرفوا الطبع قبل مخترعه المشهور غوتنبرغ الألماني بأربعمائة سنة، ولكن بغير الحروف المنضدة، وعلموا الغرب صنع الكتاب وعمل إبرة السفينة، وآلة الظل والمرايا المحرقة بالدوائر والمرايا المحرقة بالمقطوع، وقطعوا شوطا كبيرا في الميكانيكيات، ولما بعث الرشيد العباسي إلى شارلمان الساعة الدقاقة الكبيرة، تعجب منها أهل ديوانه، ولم يستطيعوا أن يعرفوا صورة تركيب آلتها على ما حقق ذلك سيديليو، ومع ذلك لم يكن في عصر العباسيين أجل من مهنة الفلاحة.
أظهر العرب بمهارتهم مزايا فواكه الفرس وأزهار إقليم مازندران، واستقطروا معظم ما في بلادهم من الزهور والورود، وكان لهم من صناعة الطيوب والعطور تجارة رابحة، وقد أغنوا العلم ولا سيما علم النبات بمسائل جديدة كثيرة، ومعظم المستحضرات والأدوية المستعملة كالأشربة والدهون والمراهم والغول (الألكحول) واللعوق والسنامكي والراوند والخيارشنبر وجوز القيء، هم الذين كشفوها، واستلزمت أصول تداويهم أن يعمدوا إلى استعمال الفتائل وإلى الحجامة في أمراض الصرع واستعمال الماء البارد في الحمى الدائمة، واتخذ جراحوهم تفتيت حصاة المثانة وقدح العين، واستخرجوا منها الجريم العدسي الشفاف، ويظهر أنهم عرفوا البنج، وفي التاريخ العام وكل هذا المجد في الطب العربي، إن لم يبد لنا بأنهم كانوا فيه أرباب نظريات دقيقة، فهم على الأقل أرباب ملاحظة عاقلة، وأرباب تجارب حاذقة، وأطباء عمل على غاية من المهارة. وكان الرازي وابن جابر أول من وضع أساس الكيمياء الحديثة، وحاولا كشف الإكسير الذي يهب الحياة ويعيد الشباب، وكانا يذهبان إلى معرفة حجر الفلاسفة الذي يحول المعادن إلى ذهب. ولم تذهب هذه الأبحاث الوهمية سدى؛ لأنهم عرفوا بها التقطير والتصعيد والتجميد والحل وكشفوا الغول من المواد السكرية والنشوية الخاثرة.
قال غوتيه: وللعرب في باب الاختراعات شيء لا بأس به بالنسبة لعصورهم، وقد وجد في كتاب عربي قديم لم ينقل إلى اللغات الأوروبية أن العرب عرفوا طريقة عمل الجليد الصناعي، ولم تعرف أوروبا سر هذه الصناعة إلا في النصف الأول من القرن السادس عشر.
ومضى دهر طويل كان فيه شعوب المملكة العربية أول العارفين بالزراعة وأحسن العمال، وأجرأ التجار في العالم القديم، وأصبحت الزراعة التي أخذوها عن أساليب بابل والشام ومصر علما حقيقيا للعرب، أخذوا نظرياتهم من الكتب ثم وسعوها بتدقيقاتهم وتجاربهم، وكانوا يطبقونها بمهارة ليس بعدها مهارة، وكان رجال الطبقة الأولى منهم لا يستنكفون عن العمل بأيديهم في زراعة الأرض، بينا كان غيرهم يحتقرها ويعدها عملا مهينا، وجرى في حكم العادة على عهد استبحار العمران العربي أن يتعلم كل إنسان مهما علت منزلته صناعة من الصنائع المعروفة أو الصنائع النفيسة، يروح بها عن نفسه ساعات الفراغ ويعتاش منها إذا أعوزته الأيام.
Halaman tidak diketahui