Pandangan Falsafah dalam Krisis Zaman
آراء فلسفية في أزمة العصر
Genre-genre
والظاهر أن أبي لم يرض بقبول مثل هذا المنطق. وكان أصغر إخوته العديدين، وكلهم من صغار الملاك. كان أصغرهم، وأشدهم قلقا، والوحيد من بينهم الذي يميل إلى شيء من التمرد. وذات مساء جاء إخوته الذين يكبرونه ونصحوه بالحرص والتروي لصالح الأسرة جميعا. وكان هذا المساء بالنسبة إلي (ولم يلق أحد منهم إلي بالا؛ لأن الكبار يحسبون أن الصغار لا يدركون أمثال هذه الأمور) شديد التبصرة. قال أكبر الإخوة: «إنني لا أماري في أن ترشيح الأمير مهزلة حقيقية؛ فالترشيح السياسي يجب أن يقتصر على المحامين وغيرهم من أرباب الكلام. أما وقد رشح الأمير نفسه، فكل ما نستطيعه هو أن نؤيده.» وأجاب أبي قائلا: «إذا كان ترشيح الأمير مهزلة، فلست أفهم لماذا نؤيده!» - لأن معيشتنا تتوقف عليه، كما تعلم جيدا. - لا يكون ذلك في السياسة؛ فنحن فيها أحرار. - إننا لا نزرع السياسة، إنما نزرع الأرض. - إن حياتنا تتوقف على الأمير باعتبارنا فلاحين للأرض، وليس هناك ذكر للسياسة في عقودنا الزراعية، ليس بها ذكر إلا للبطاطس والبنجر. أما كناخبين فنحن أحرار. - ووكيل الأمير حر أيضا في عدم تجديد عقودنا. ومن أجل هذا فنحن مضطرون إلى أن نقف بجانبه. - لا أستطيع أن أعطي صوتي لرجل لمجرد أني مرغم على ذلك. إنني حينئذ أشعر بالمذلة. - لن يعرف أحد لمن تعطي صوتك؛ فأنت تستطيع أن تصوت كما تشاء بكامل حريتك، وسرية الدوائر الانتخابية كفيلة بذلك، ولكن خلال المعركة الانتخابية يجب علينا أن نقف إلى جانب الأمير مجتمعين. - كان يسرني هذا لولا أن ذلك يخجلني، ولكن صدقوني؛ إنني أخجل من ذلك كثيرا.
ولكي ينتهي الجدل إلى وفاق، توصل أبي وأعمامي إلى هذا الرأي الوسط. لا يظهر أبي مؤيدا للأمير أو معارضا له.
وقامت بالإعداد لرحلة الأمير الانتخابية السلطات المدنية ورجال الشرطة والفرسان المسلحون ووكلاء المزرعة، وتكرم الأمير ذات يوم أحد بالمرور خلال القرى الأساسية في دائرته الانتخابية، دون أن يتوقف أو يلقي خطابا. وظل أبناء الجهة يذكرون هذه الرحلة أمدا طويلا، لا لشيء إلا لأنه قام بها في سيارة. وكانت هذه أول مرة نشهد فيها السيارة، بل إن كلمة «سيارة» نفسها لم تجد لها مكانا بعد في لغة حديثنا اليومية، وكان الفلاحون يسمونها «العربة التي لا تجرها الخيل». وفي يوم الأحد هذا خرج جميع سكان القرية للقاء الأمير في عرض الطريق التي كان ينتظر أن يسلكها، وبدت علامات متعددة تدل على الإعجاب والمحبة الجماعية للأمير. وكانت الجماهير ترتدي أجمل ثيابها، وكانوا في حالة من النشوة العظمى التي لا يعرف الجميع أسبابها. ووصلت العربة التي لا تجرها الخيول في وقت متأخر، وعلا ضجيجها خلال الجماهير المحتشدة وعبر القرية، دون أن تقف أو حتى أن تبطئ في سيرها، مخلفة وراءها سحابة من الغبار الكثيف الأبيض.
وبعد يومين وصل من روما رجل عجوز ضئيل الجسم، وكان يرتدي نظارة ويحمل عصا سوداء وحقيبة صغيرة، ولم يعرفه أحد، وقال إنه طبيب عيون، وقد رشح نفسه ضد الأمير، وتجمع حوله نفر من الناس مستطلعين، وأكثرهم من الأطفال والنساء، الذين ليس لهم حق التصويت. وكنت بين الأطفال أرتدي سروالا قصيرا، وأحمل تحت إبطي كتبي المدرسية. ورجونا هذا الرجل العجوز أن يخطب فينا، فقال: «ذكروا آباءكم أن التصويت سري. وليس عندي شيء غير هذا.» ثم قال: «إنني رجل فقير، أعيش من عملي كطبيب عيون، ولكن إذا شكا أحدكم من عينيه فأنا على استعداد لأن أعالجه بغير مقابل.» فأتينا له بامرأة عجوز تبيع الخضر، وكانت تشكو من عينيها، فقام بتنظيفهما، وأعطاها قارورة صغيرة بها بضع قطرات، وشرح لها طريقة استعمالها، ثم قال لنا (وكنا جماعة من الأطفال ليس غير): ذكروا آباءكم بأن التصويت سري. ثم انصرف. ولشد ما كانت دهشتنا جميعا حينما نمى إلينا أن أغلبية كبرى من الناخبين - لسرية الدوائر الانتخابية - قد صوتت ضد الأمير، وأعطت أصواتها لهذا الطبيب المجهول. وكانت فضيحة كبرى.
وفي عام 1915م حدث زلزال لم نعهد شدته من قبل، ودمر جانبا كبيرا من إقليمنا، وقتل في ثلاثين ثانية ما يقرب من خمسين ألف نسمة. ولشد ما كانت دهشتي حينما وجدت كثيرا من أبناء قريتي قد استقبلوا هذه الكارثة المروعة كأنها أمر طبيعي. ولم يلق منهم تفسير الجيولوجيين المعقد الذي روته الصحف سوى الازدراء. وفي بلد مثل بلدنا، حيث تقع المظالم المتعددة دون عقوبة الظالم ينظر الناس إلى تكرار حدوث الزلازل على أنها ظاهرة ليست بحاجة إلى تفسير سوى مجرد حدوثها، بل إن من العجب ألا يتكرر حدوث الزلازل أكثر من ذلك. والزلزال يقضي على الغني والفقير، وعلى المتعلم والجاهل، وعلى الحاكم والمحكوم على السواء، ويلقي بهم جميعا تحت أنقاض المنازل. وفي هذا نجد التفسير الحقيقي لقوى الاحتمال عند الإيطاليين عندما تحل بهم كوارث الطبيعة؛ فالزلزال ينفذ ما ينص عليه القانون ولا يقوم بتنفيذه، وهو المساواة بين الناس جميعا.
أما ما بدا لأهالي ناحيتنا الفقراء أنه مصيبة أشد خطرا من أي كارثة طبيعية فهو ما حدث بعد الزلزال؛ ذلك أن برنامج إعادة بناء الدولة قد بدأ تنفيذه مصحوبا بدسائس لا حصر لها، وبالخداع والسرقة والغش والتزوير، وبكل ضروب الخيانة. وقد أمدني ببعض المعلومات من هذا القبيل عن أعمال إجرامية معينة اقترفها كبار مهندسي إحدى المصالح الحكومية صديق لي طردته هذه المصلحة من خدمتها. ولم تدهشني هذه المعلومات بقدر ما أثرت في نفسي، فسارعت إلى نقل هذه الوقائع إلى بعض أصحاب النفوذ ممن عرفت فيهم الاستقامة والنزاهة لكي يفصلوا هؤلاء المجرمين. ولم ينكر أصدقائي الشرفاء صحة ما ذكرت لهم، بل أيدوه بما لديهم من خبرة. ولكنهم - برغم هذا - نصحوني بأن أبتعد عن هذا الموضوع، وألا أشتبك بسذاجتي في أمور من هذا القبيل. وقالوا لي مخلصين: «أنت شاب، ولا بد لك من إتمام دراستك، وأمامك مستقبلك تفكر فيه، ولا ينبغي لك أن تعرض نفسك لأخطار أمور ليست مما يخصك.» قلت: «لا شك أنه من الأفضل أن يصدر التشهير بهؤلاء الخونة من كبار مثلكم، لديهم سلطة ونفوذ، وألا يصدر من شاب في السابعة عشرة من عمره.»
وأصابهم الذعر من قولي، وأجابوني بقولهم: «لسنا مجانين، سنعنى بالأمور التي تخصنا، وليس لنا شأن بأمور غيرنا من الناس.»
ثم تحدثت في الموضوع بعد ذلك مع بعض القساوسة أصحاب القداسة، ثم مع بعض الشجعان من أقاربي. وقد توسلوا إلي جميعا أن أبتعد عن مكمن الخطر هذا، وأن أنصرف إلى دراستي، وأفكر في مستقبلي وفي عملي، وذلك بالرغم من إقرارهم بأنهم كانوا على علم بالأمور الشائنة التي كانت تجري في ذلك الحين. وأجبتهم بقولي: «سأفعل ذلك مسرورا، ولكن أليس من بينكم أحد على استعداد لأن يعلن عن هؤلاء اللصوص؟» وردوا علي وهم يشعرون بالفضيحة: «لسنا مجانين؛ فإن هذه الأمور ليست مما يخصنا.»
وعندئذ بدأت أفكر جديا أنه قد يكون من الخير أن أقوم - مع غيري من الشبان - ب «ثورة» جديدة تنتهي بالقضاء على مكاتب المهندسين الفاسدين قضاء مبرما. غير أن صاحبي الذي دلني من قبل على انحرافهم في المعاملة صرفني عن هذا العزم. وكان أكبر مني سنا وأكثر خبرة. واقترح علي أن أعلن الاتهام في إحدى الصحف. ولكن أي صحيفة؟ فقال لي: «هناك صحيفة واحدة يمكن أن تهتم بنشر اتهامك، وهي صحيفة «الشيوعية».» ومن ثم شرعت في العمل، وكتبت ثلاث مقالات، وهي أول ما كتبت في حياتي، وعرضت في تفصيل السلوك الفاسد لمهندسي الحكومة من ناحيتنا، وبعثت بها إلى صحيفة «أفانتي». وقد نشر المقالان الأولان فورا، وأثارا تعليقا كثيرا من قراء الصحيفة، ولكنهما لم يثيرا قط أحدا من المسئولين. أما المقال الثالث فلم يظهر؛ لأن أحد الزعماء الشيوعيين - كما علمت فيما بعد - تدخل مع هيئة التحرير. وقد أظهر لي ذلك أن وسائل الغش والخداع التي كنا نعانيها كانت أوسع انتشارا مما بدا لي أول الأمر، وأن فروعها تمتد حتى إلى الشيوعية دون أن يراها أحد. ومهما يكن من شيء، فإن الاتهام الجزئي الذي ظهر في الصحيفة دون أن يتوقعه أحد كان يحتوي على مادة تكفي لإقامة عدد من القضايا، أو على الأقل لتأليف لجنة للتحقيق، غير أن شيئا لم يحدث. ⋆ (1-2) إغراء الشيوعية
أعلم تمام العلم أن الرأي الذي كنت أحاول أن أعرضه في هذه الصفحات قد بلغ من الإيجاز حدا يجعله رأيا متكلفا. وإن كنت أذكر هذا الاعتراض الآن فليس ذلك لأني أود أن أنبذ الرأي أو أن أقسم بالصحة المطلقة لما ذكرت. وأنا أؤكد للقارئ صدق ما رويت وإن كنت لا أضمن مطابقته للواقع. وأنا نفسي كثيرا ما أدهش حينما أجد - عندما أعود بذاكرتي إلى تلك الفترة من حياتي التي قضيتها مع زملائي، وهي فترة بعيدة تكاد تكون قبل التاريخ - كيف لا يستطيع هؤلاء الزملاء أن يذكروا البتة، أو كيف يذكرون في غموض - إن هم تذكروا - إطلاق تلك الحوادث التي كان لها أثر حاسم في نفسي؛ في حين أنهم - على نقيض ذلك - يستطيعون أن يذكروا في وضوح شديد حوادث أخرى كانت بالنسبة إلي تافهة عديمة الدلالة. فهل كان هؤلاء الزملاء جميعا «شركاء في الإثم على غير وعي منهم؟ وبأي قضاء محتوم، وبأي داع يختار الإنسان - في سن معينة - لنفسه إما أن يكون شريكا في الإثم، وإما أن يكون متمردا، على ما في هذا الاختيار من أهمية؟» من أي مصدر يستمد بعض الناس عدم احتمالهم للظلم من تلقاء أنفسهم، بالرغم من أن الظلم لا يقع إلا على غيرهم من الناس؟ ومن أين يستمدون ذلك الشعور المفاجئ بالذنب عندما يجلسون إلى موائد مترعة بالطعام، في حين أن غيرهم يتضورون من الجوع، وتلك الكبرياء التي تجعلهم يؤثرون الفقر والسجن على الاحتقار؟
Halaman tidak diketahui