12
يحكي وعين تنظر. ما أجمل حديثها وأحلاه! كأنها تقول لي: «أبو نعوم، أهلا وسهلا، مرحبا يا عشير الصبا، مرحبا يا ابني الصغير، أنا ربيت جد جد جدك، تحت جناحي تخبا في الضيقات والشدائد، وفي حضني كان يحدث ربه بكل هدوء وخشوع، وتحت أرجل منبر اعترافي طرح خطاياه فخرج من بركة التوبة أبيض مثل الثلج. ضمن هذه الحيطان تبارك إكليل جدك الأعلى منذ أجيال، وأنت واحدة من ثمرات بركتي، وها هم ناموا حولي جميعا، وها أنا أرعى قبورهم كحارس لا ينام، وناطور لا يغفل.
قم يا ابني، قم قبل خد بابي الأملس، قبله لتحس شفتاك طعم شفاه أجدادك الأقدمين، إن شفاههم الصلبة قد نعمت هذا الخد فصار مثل الحرير».
وتحلحل أبو نعوم رويدا رويدا، ثم نهض ومشى مشية المقيد، وقال بصوت عال: أمرك يا عيوني!
وتقدم من خد الباب فقبله وقال: هه! هذي بوسة ثانية، وهذي ثالثة. والتفت بجدار الكنيسة كأنه يسأله: أبوس بعد؟ ... ثم ترامى على خد الباب وقبله قبلات لا تحصى، وقفل راجعا. رأى جرنا في ساحة الكنيسة فوقف عليه وقال: هذا جرن الشباب، هذا أيضا يقول لي: تذكر، يا بو نعوم، يوم كنت شيخ الشباب، يوم كنت تلعب بهذا الجرن
13
لعبا، كنت تقيمه فوق رأسك خمس مرات حتى إذا انتهيت رفعوك على الأيدي.
واقترب من الجرن، وبعد ألف جهد استطاع تحريكه، فهز رأسه وقال: هاتيك أيام وهذي قبالها.
وما استقر حيث كان حتى رأى دودة سارحة على طرف عباءته، فقال لها: هه! من قبر من طلعت؟ ومن جثة من تغذيت؟ على مهلك، لا تخافي، على كل حال أنت منا وفينا، أنت بنت ضيعتنا.
وفي الغد دق قداس الأحد فكان أبو نعوم أول الملبين، قعد يتشمس في مكانه منتظرا ابتداء القداس، جلس وحده، ولكن واحدا تعود أن يدون أخباره في دفتر لتظل تاريخا للضيعة، قعد حده فطفق يروي له ما شاهد وما سمع من أخبار أمراء لبنان من فخر الدين وآل سيفا إلى المير يوسف والمير بشير الجالس سعيدا على كرسي إمارة الجبل.
Halaman tidak diketahui