145

Dwerg Gergasi

أقزام جبابرة

Genre-genre

كثيرا ما كان يسمع الناس عياط المكارين: يا حنا، ما عندك ماء تسقينا؟ وكان حنا يهتز للسقيا، على قلة الماء في القرية وبعد البئر عن قبوه، فكان لا يمسي إلا وجرته ملآنة استعدادا للطوارئ، وهو ابن بيت أطعم بسخاء، فكيف لا يسقي؟ والماء لا يكلفه إلا قليلا من التعب. فعند كل غروب شمس كان يرى منتصبا كالبرج فوق أرجاء بئر الدرب أو بئر الدكان يملأ جرته «البغالية»، ثم يحملها بيده اليمنى دون أن تنطوي قامته الشامخة. وإذا التقى بأحد، وهو على حاله تلك، ينبسط وجهه تجملا، ولكنه لا يبتسم ولا يضحك.

إن رؤية بيت دب فيه ثم هجره ابن خمس كانت تؤلمه جدا، وكيف يتحامى ذلك، والآبار كلها حول الكنيسة أو قربها، وهو محتاج إلى الماء؟ لا بد إذن من النظر إلى علية بيت الكريدي وتذكر أيام عزه في الطفولة. ومع أن حنا مشته العضة بالرغيف كان يتجمل ويري الناس أنه بألف خير شبعان مكفي مثلهم، بل كان يفوقهم بأنفة يدل عليها شمم طبيعي في هيكله المتناسب بدانة وطولا. كان في خده صعر لا يستقيم، وكبرياء موروثة، إذا دخل بيتا ولم تبسط له طراحة أو مسند على الأقل يظل واقفا، ثم يلوذ بعذر وينصرف. عرف الناس هذه الخصلة فيه، فإذا رغبوا في مسامرته، أو كانوا في حاجة إلى «شريك» في لعب الورق، مدوا له الطراحة والمسند، فيقعد بطل لعبة «الداكا» وتختم السهرة بأكل الجوز والتين اليابس والزبيب.

كان لحنا شاربان معتدلان، لونهما خروبي كجلدة وجهه، يركزهما حين يؤاتيه «الورق»، وإذا خانه الحظ حك نقرة في ذقنه، ومتى غلب يصعد الدم إلى وجهه فيسود، ثم لا يلبث أن ينقلب إلى وكره، فيستقبله كلبه غبار محييا بذنبه، مقبلا بملء شدقيه، حتى إذا سمع حس إنسان أو حيوان وقف على حائط المصطبة قدام باب القبو وطفق ينبح، ولا يزال يهر حتى يبتعد الحس أو ينقطع، فيعود ليقعد حد صاحبه الذي يربت له على ظهره مثنيا على نخوته.

كان حنا يحدث كلبه كأنه بشر، وكثيرا ما كان الكلب يفهم عنه. وهذا الكلب أنوف عفيف، فيه كثير من أخلاق صاحبه، لا يطوف على الأبواب كرعاع الكلاب، رباه حنا على عزة النفس والأنفة، فهو لا يتبذل ويلحق بصاحبه في الضيعة، وإن كان لا يتركه في البرية، يظل مع ابن خاله الحمار يتداعبان، وإذا غاب حنا وحماره، ينطر غبار القبو ولا يبرحه.

وكان خلاف على الناطور، فانشقت الضيعة حزبين، حزب يؤيد الناطور السابق، وحزب لا يريده، فسعى محبو السلامة في فض الخلاف، فلم يقعوا على شخص يرضى عنه الجميع، فقال الخوري: حنا، يا أولادي، هذا رجل طيب أمين، بيته على كتف «الوطا» ولا يملك عريشة ولا زيتونة، وما قال أحد إنه قطف عنقود عنب، أو حبة زيتون. ضيعتنا تحتاج إلى ناطور أمين، صاحب ذمة مثل حنا.

وفوتح حنا بذلك فأجاب: الدهر يجور على السلاطين، الحاجة لا تصير ابن ديب الكريدي كلب الضيعة، لا لا لا.

قال حنا هذا ورفع يده بإباء، فوقف كلبه على سلاحه، وازداد حنا حدة فهر الكلب، فاضطر حنا أن يبتسم له حتى يسكت.

وبعد مساع عنيفة قبل حنا عصا النطارة وأظهر عبقرية عجيبة. كان بخلاف النواطير صامتا فلا يعرف أحد أين يكون، إن خراج القرية ذو التواءات، والوطا مشتبك الأشجار، ولكن صمت حنا ذلل هذه المصاعب كلها وهابه الذين يعبثون بالأرض. أما كلبه غبار، رفيقه الدائم، فكان يلزم الصمت حين يأمره حنا بذلك، وكثيرا ما كان يستنيبه فيرسله وراء خروف ضال أو عنزة شاردة، فيسوقهما أمامه ويجيء بهما إليه، فيأخذ حنا الضريبة المفروضة له على كل رأس.

وظل حنا في وظيفته هذه عشر سنوات لم يلطخ اسمه بشهادة زور أو سوء أمانة. وفي أيام المواسم حين كان يخشى غزو الثمار، كان لا ينام إلا غرارا، يرابط كل ليلة في مخرم فيصون الكروم والإجاص والسفرجل، ولا يستريح باله حتى يتم قطاف الزيتون. وفي ذلك الحين يتبرع له الفلاح الوسط برطلين ثلاثة حلوان سهره وتعبه، أما الملاك الكبير فلا يعطيه أقل من خمسة، وبعضهم كان يعطيه عشرة.

وفي أحد أيام الشتاء انتصب حنا كالمارد على شرف من صخور شير الكروم ليشمل بنظره خراج مملكته، قلب رأسه صوب كسارة العين، والفتاح والبياضة، فما رأى بهيمة في غير موضعها، فتطاول لسطوته التي أمست تغنيه عن اللف والدوران والوقوف بالمرصاد. نعم، ليس كانون كشهر أيلول حين تكون المئونة على العود، فاليد في الصيف ممدودة، ولكن متى كانت الحال هكذا؟ لا معازة ولا بقارة، ولا قطع إحراج. أعجبت حنا نفسه كثيرا وشكر ربه على هذه النعمة، ورفع يديه ابتهالا وحمدا، فإذا بالصخر يزحل من تحته، وظلا منحدرين معا حتى استقرا على شفير النهر.

Halaman tidak diketahui