Jalan Terbaik dalam Mengetahui Keadaan Kerajaan
أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك
Genre-genre
الذي جمع قبائل العرب أمة واحدة تقصد مقصدا واحدا، وظهرت للعيان أمة كبيرة مدت جناح ملكها من نهر طاج في إسبانيا إلى نهر الفانج في الهند، ورفعت على منار الإشادة أعلام التمدن في أقطار الأرض أيام كانت أوروبا مظلمة بجهالات أهلها في القرون المتوسطة، كأنها نسيت بالمرة ما كان عندها من التمدن الروماني واليوناني.
وبعد انقسام ممالك الإسلام لم تتعطل العلوم والآداب التي نتجت على أيديهم، فإن خلفاء بغداد وقرطبة ومصر وإن ضعفت قوتهم الملكية والسياسية فإن سلطتهم الروحانية لم تزل قوية مطاعة في كل جهة لاجتهادهم في توسيع دوائرها بقدر طاقتهم. وقد نال النصارى الذين استطاعوا إخراج العرب من إسبانيا بالخلطة معهم في الحروب معارفهم وصنائعهم واختراعاتهم، ثم المغل والترك الذين تسلطوا على آسيا وتداولوها كانوا خدمة في العلوم لمن تغلبوا عليه من فرق العرب. وإلى الآن لم نطلع في أوروبا على الأصول التي تبين لنا عادات العرب اطلاعا تاما؛ إذ لم يعرف عندنا من تواريخهم إلا تواريخ أبي الفداء وأبي الفرج والمقريزي وابن الأثير ونبذة من تاريخ ابن خلدون، ونجهل بالمرة تواريخ كثيرة نود لو نجد من يترجمها لنا، وإن كان المقدار الذي حصل عندنا كافيا في رد غلط من غلط من أهل أوروبا في شأن العرب. ثم إني ذكرت في تاريخنا هذا ما يتعلق بفتوحات الخلفاء الأولين، وبتاريخ دولة بني أمية بدمشق وقرطبة وبتاريخ دولة بني العباس ببغداد والفاطميين بمصر، وبانقسام الممالك الإسلامية بالمشرق بعد تسلط الترك والمغل عليهم، فبينت جميع ذلك بقدر الطاقة وزدت عليه شيئا لم يوجد في التواريخ السالفة، وهو برنامج التمدن العربي الذي قد توشجت عروقه في الدنيا القديمة، واستمرت آثاره ظاهرة إلى الآن لكل من يبحث بالجد عن أصل المعارف منا. وفي أوائل القرن الثامن من تاريخنا تبدل ولوعهم بالفتوحات بالجد في المعارف والعلوم، فكانت إذ ذاك قرطبة ومصر وطليطلة وفاس والرقة وأصبهان وسمرقند تتسابق في ميدان العلوم مع بغداد تحت بني العباس، وترجمت في تلك المدة كتب اليونان وقرئت بالمدارس وشرحت، وسرت حركات عقولهم في جميع مواد المعارف الإنسانية؛ فنتج عنها من الاختراعات الغريبة ما شاع صيته في أوروبا، فتبين بلا إشكال أن العرب هم أساتيذنا بلا إنكار لكونهم جمعوا الأدوات المؤسسة عليها تواريخنا المتوسطة، وبدءوا بكتابة الرحلات واخترعوا التآليف في تاريخ وفيات الأعيان، ووصلوا في صناعة اليد إلى غاية لا تحد، وبقية آثار أبنيتهم مما يدل على اتساع معارفهم، وكذلك اختراعاتهم الغريبة تزيد بيانا لفضائلهم التي لم ينزلوا إلى الآن منزلتهم التي يستحقونها بسببها، فإن علوم الفيزيك والطب والتاريخ الطبيعي والكيمياء والفلاحة لما جاءت في أيديهم ازداد فيها الغريب مع كونها من المحسوسات التي لا تصرف لها هممهم صرفا تاما، فكيف بالعلوم العقلية التي اجتهدوا فيها اجتهادا يفوق الحد من مبدأ القرن التاسع إلى انتهاء القرن الخامس عشر؟ ثم نقول: ما نسبة ما عرفناه الآن منهم ببحثنا إلى ما بقي مجهولا لنا من ذلك؟ وبالجملة فالعرب هم منبع معارفنا ولم نزل إلى الآن نطلع على أشياء من مخترعاتهم التي كانت منسوبة لغيرهم، كما قرأنا كتبهم. ثم قال في شأن التمدن العربي: إنهم كانوا في القرون المتوسطة مختصين بالعلوم من بين سائر الأمم، وانقشعت بسببهم سحائب البربرية التي امتدت على أوروبا حين اختل نظامها بفتوحات المتوحشين، ورجعوا إلى الفحص عن ينابيع العلوم القديمة، ولم يكفهم الاحتفاظ على كنوزها التي عثروا عليها، بل اجتهدوا في توسيع دوائرها وفتحوا طرقا جديدة لتأمل العقول في عجائبها.
ثم استشهد بقول إسكندر همبلط أن العرب خلقهم الله ليكونوا واسطة بين الأمم المنتشرة من شواطئ نهر الفرات إلى الوادي الكبير بإسبانيا، وبين العلوم وأسباب التمدن، فتناولتها تلك الأمم على أيديهم؛ لأن لهم بمقتضى طبيعتهم حركة تخصهم أثرت في الدنيا تأثيرا لا يشتبه بغيره، فكانوا في طبيعتهم مخالفين لبني إسرائيل الذين لا يطيقون خلطة أحد من الناس، يخالطون غيرهم من غير أن يختلطوا به، ولا يتبدل طبعهم بكثرة المخالطة ولا ينسون أصلهم الذي خرجوا منه. وما أخذت أمم ألمانيا في التمدن إلا بعد مدة طويلة من فتوحاتهم بخلاف العرب، فإنهم كانوا يحملون التمدن معهم، فحيثما حلوا حل معهم، فيبثون في الناس دينهم وعلومهم ولغتهم الشريفة وتهذيباتهم وأشعارهم الشهيرة التي هي أساس بنى عليه المنسنفر والتربدور أشعارهم. ثم قال بعد ذلك: ونعود الآن فنقول: إنه ثبت عندنا بما صنفه العرب واخترعوه رجحان عقولهم الغريب في ذلك الوقت الذي وصل صيته إلى أوروبا النصرانية، وهذا حجة على أنهم كما قال غيرنا، ونحن نعترف به، أساتيذنا ومعلمونا. انتهى المقصود منه.
ثم إن الدولة الإسلامية أخذت في التراجع لما انقسمت إلى دول ثلاث: الدولة العباسية ببغداد والمشرق، ودولة الفاطميين بمصر وأفريقية، ودولة الأمويين بالأندلس، ثم تكاثرت الحروب الداخلية وانقسمت تلك الدول، خصوصا الأندلسية، فإنها صارت ملوك طوائف، وتحقق فيهم قول القائل:
ألقاب سلطنة في غير موضعها
كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد
وموجب ذلك التفرق تعارض الأغراض والشهوات من الأمراء والثوار الذين لم يعتبروا ما في الانقسام من المضار على الجميع، حتى نشأ عن ذلك خروج الأندلس من يد الإسلام.
ووقع من الخلل في بقية الممالك ما تفاقم ضرره، لولا أن تلافى الأمر بتأييد الله سلاطين آل عثمان الكرام، فجمعوا غالب الممالك الإسلامية تحت رعاية سلطنتهم العادلة التي تأسست سنة ستمائة وتسع وتسعين من الهجرة النبوية، فتراجع للأمة عزها بحسن تدبيرهم واحترامهم للشريعة المصونة بحفظ حقوق الرعية وبفتوحاتهم الجليلة المذكرة لفتوحات الخلفاء الراشدين، وارتقائهم في سلم التمدن خصوصا في مدن السلطان سليمان ابن السلطان سليم في أوائل المائة العاشرة، حيث بادر لقطع الذرائع التي يتوقع بسببها وقوع الخلل في الممالك بما رتبه من قانونه النافع الذي استعان فيه بالعلماء العاملين وعقلاء رجال دولته، وجعل مداره على إناطة تدبير الملك بعهدة العلماء والوزراء، وتمكينهم من تعقب الأمراء والسلاطين إن حادوا، وذلك أن ملك الإسلام مؤسس على الشرع الذي من أصوله المشار إليها سابقا وجوب المشورة وتغيير المنكر، والعلماء أعرف الناس به، كما أن الوزراء أعرف بالسياسة ومقتضيات الأحوال، فإذا اطلع العلماء والوزراء على شيء يخالف الشريعة والقانون الخادم لها فعلوا ما تقتضيه الديانة من تغيير المنكر بالقول أولا، فإن أفاد حصل المقصود وإلا أخبروا أعيان الجند بأن وعظهم لم ينفع. وبين في القانون المذكور ما يئول إليه الأمر إذا صمم السلطان على أن ينفذ مراده وإن خالف المصلحة، وهو أنه يخلع ويولى غيره من البيت الملكي، وأخذ على ذلك العهود والمواثيق من العلماء ورجال الدولة، واستمر العمل على ذلك، فكانت منزلة العلماء والوزراء بالدولة بمقتضى هذا القانون في الاحتساب على سيرة السلاطين كمنزلة وكلاء العامة في أوروبا الآتي بيانهم، بل هي أعظم باعتبار أن الوازع الدنيوي الداعي إلى الاحتساب متأيد بالوازع الديني عندنا، فبذلك القانون المشار إليه استديم نجاح الدولة وحسن سيرتها.
ثم إنها أخذت في التأخر والنقص لما قصرت في إجراء المصالح الملكية على مقتضى الشرع والقوانين السياسية، وعدمت التحري في انتخاب أرباب الخطط المعتبرة، فتصرف بعضهم بحسب الفوائد الشخصية لا باعتبار مصلحة الدولة والرعية، إلى أن دخل في عسكر الانكشارية من أفسد حسن نظامهم وخلخل طاعتهم، حتى تداخلوا فيما ليس لهم من أحوال الملك، وحيروا راحة السكان بظلمهم المتنوع بعد أن كان يضرب المثل بطاعتهم كما يضرب بشجاعتهم في ميادين الحرب؛ فنشأ من مجموع هاته الأمور وأمثالها الاضطراب في المملكة، واغتنم ولاة الممالك البعيدة الفرصة في الامتناع من الانقياد لأوامر الدولة، وأطلقوا أعنة الأغراض والشهوات، والتجأ الكثير من أهل الذمة إلى الاحتماء بالأجانب؛ لأن الإنسان إذا انقطع أمله من حماية شريعة الوطن لنفسه وعرضه وماله يسهل عليه الاحتماء بمن يراه قادرا على حمايته، وربما يسعى في الأسباب التي يمكن بها تسلط حامية على المملكة، خصوصا من لم يكن بينه وبين الدولة اتحاد في الجنس والديانة. وبمثل هاته المضار الناشئة عن تصرف الولاة بدون قيد شرعي أو سياسي تيسر للأجانب التداخل في أحوال المملكة، وإفساد سياستها بما يناسب أغراضهم، حتى نشأت حروب أهلية في عدة جهات من المملكة دامت مدة طويلة، وأفنت نفوسا وأموالا كثيرة، وتسبب عنها خروج ممالك معتبرة من يد الدولة، ووقع من الخلل في باقيها ما عظم ضرره، لولا تدارك المرحوم السلطان محمود وولديه المرحوم السلطان عبد المجيد والمؤيد السلطان عبد العزيز - دام عزه - بتعويض الأول عساكر الانكشارية بالعسكر النظامي، وقطع دابر أمراء الإيالات المسماة عندهم بالداربى، فانقطعت بذلك المظالم الناشئة من ذينك الفريقين؛ وضبط الثاني للسياسات الشرعية بالتنظيمات الخيرية التي هي أساس تصرفات الدولة في الحال بإعانة من رجال الدولة وعلمائها العاملين سنة ألف ومائتين وخمس وخمسين؛ ثم باجتهاد الثالث - أيده الله - في تمشيتها وتهذيبها وإضافة ما تظهر لياقته بالأحوال بمقتضى تجريبها، كالقانون الذي رتبه أخيرا في إدارة مصالح الإيالات الذي يؤمل منه مصالح جمة.
وقد كانت العامة في مبدأ الأمر أنكرت تلك التنظيمات إنكارا كليا حتى ظهر في بعض جهات المملكة مبادئ الاضطراب؛ وسبب ذلك أن عمال تلك الجهات وغيرهم، ممن له فائدة في التصرف بلا قيد ولا احتساب، لما تيقنوا أن إجراء الإدارة والأحكام على مقتضى التنظيمات، مما يخل بفوائدهم الشخصية، دسوا للعامة من قول الزور والغش ما ينفرهم منها، مثل قولهم هذا شرع جديد مخالف لشريعة الإسلام، وأعانهم على ذلك من كان له من الدول الأوروباوية فائدة في عدم نجاح سعي الدولة في تحسين أحوال ممالكها، فالدولة العلية عوض أن تغتنم تلك الفرصة وترجع إلى استبدادها، كما وقع في بعض الممالك أكذبت تلك الظنون الفاسدة بإرسال فخر علماء ذلك العصر وأتقاهم، أعني شيخ الإسلام المقدس عارفا بك إلى جهات الاضطراب لوعظ الناس وأمرهم بالطاعة والامتثال، فخطب بذلك على المنابر وبين للناس أن تلك التنظيمات ليست خارجة عن المنهج الشرعي، وما هي إلا ضبط للسياسات الشرعية التي كانت أهملت، وأن الداعي إليها ليس إلا تحسين إدارة المملكة وحفظ حقوق الأمة في النفس والعرض والمال وكف الأيدي الجائرة من الولاة ونحو ذلك من المصالح، فانقادت الرعية عند ذلك وسكنت، واستمر العمل بالتنظيمات في سائر الجهات بقدر الإمكان. وأنت خبير بأن مثل هذا الحبر الذي سارت بمآثره الركبان وشهد له بالعلم والعمل جهابذة أرباب العرفان، خصوصا فخر القطر الأفريقي وفجر الرشاد الحقيقي من بلغ صوت صيته مسامع سائر النواحي، الأستاذ العلامة سيدي إبراهيم الرياحي لو لم ير مساغا لهذه التنظيمات ما خطب بها على المنابر، ولا كان على تقريرها أحزم مثابر، ومن تأملها بعين الإنصاف لم يجد في حسنها ولياقتها مثار خلاف، بل جزم بأنها قوام الاستقامة والوسيلة التي يستعاد بها ما كان للدولة من العز والفخامة.
Halaman tidak diketahui