أصبح لون شعرها غريبا؛ فقد استحالت الخصلات السوداء في رأسها إلى اللون الرمادي، على عكس الخصلات الحمراء التي ظلت كما هي، مما أدى إلى مزيج ألوان ضاربة إلى الرمادي أقنعتها ابنتاها بصبغه، لكن اختيار درجة لون الصبغة لم يكن سديدا. مع ذلك، فدرجة اللون الجديدة، وكذلك أحمر الشفاه الثقيل، والبدلة الأنيقة مربعة النقش، والنحافة، وحالة الحيوية وعدم التركيز التي كانت فيها؛ كل ذلك جعلها تبدو كما عهدها الناس، وقد سعد الكثيرون برؤيتها.
كانت قد عادت إلى هانراتي قبل هذه المناسبة بالطبع، ولكن لم تكن تأتي كثيرا. ولم تصطحب تيد معها قط، لكنها كانت تجيء بابنتيها، اللتين كانتا تظنان هانراتي مكانا سخيفا وعجيبا، مكانا غريبا عاش فيه والداهما. أنجبت من تيد ابنتين، فأصبح لتيد أربعة بنات إجمالا، ولم يكن له ولد. وفي كل مرة في غرفة الولادة، كانت فرانسيس تشعر بالارتياح لذلك.
ظلت معتقدة أن أديليد هي من أفشت سرها، وظلت غاضبة بسبب هذا، مع أنها ربما تكون ممتنة لهذا. الآن أديليد ماتت، فقد ازداد وزنها قبل الوفاة وأصابتها مشكلة قلبية.
لم يسأل المعزون فرانسيس في دار المناسبات عن تيد، ولكنها شعرت بأن هذا بسبب الإحراج القديم، لا بسبب ضغينة يكنونها له، لكنهم سألوا عن ابنتيها. إلا أن فرانسيس نفسها ذكرت اسم تيد؛ فقالت إن الابنة الصغرى عادت من مونتريال حيث تدرس لكي تقضي بضعة أيام إلى جوار أبيها خلال فترة غياب أمها لحضور الجنازة. كان تيد في المستشفى مصابا بانتفاخ الرئة؛ إذ كان يذهب إلى المستشفى عندما تتأزم حالته الصحية ليتلقى العلاج، ثم يعود إلى البيت مجددا. وكان هذا الوضع سيستمر فترة.
بدأ الناس يتحدثون عن تيد، متذكرين سلوكياته العجيبة في الفصل، ويقولون إنهم لم يصادفوا أحدا مثله قط، ويجب أن يكون المعلمون مثله، وساعتها سيتغير حال المدرسة. ضحكت فرانسيس، ووافقتهم الرأي، ووضعت في اعتبارها ضرورة نقل كل ذلك إلى تيد، ولكن بطريقة عفوية كي لا يحسب أن الهدف منه هو إبهاجه. أما هو، فلم يعد إلى التدريس بعد رحيله عن هانراتي؛ فقد حصل على فرصة عمل في أوتاوا لصالح الحكومة بصفته عالم أحياء؛ ففي وقت الحرب، كان من الممكن الحصول على عمل كهذا دون شهادات علمية أعلى. أما فرانسيس، فعملت مدرسة موسيقى، وبراتبيهما استطاعا إرسال المال إلى جريتا التي عادت إلى أونتاريو الشمالية وأضحت تعيش مع عائلتها. ظنت فرانسيس أن تيد أحب عمله، كان يتورط في عداءات ومشاجرات كبيرة وكان حديثه ساخرا مع الناس، ولكن بحسب ما تراه كان هذا هو حال الموظفين الحكوميين. ولكنه كان ينظر إلى التدريس باعتباره مهنته الحقيقية؛ فكلما تقدم به العمر، تحدث مرارا وتكرارا عن الفترة التي كان يدرس فيها، مصورا إياها كنوع من مغامرات متتالية، مليئة بالمديرين المجانين، ومجالس الإدارات اللاعقلانية، والتلاميذ المتمردين الذين كان يكسر شوكتهم في النهاية، والتشويق الذي كان يجده في الأشياء التي لم يكن يرجح حدوثها. كم كان سيسر لو عرف أن ذكريات تلاميذه تتوافق مع ذكرياته.
نوت فرانسيس أيضا إخباره عن هيلين، ابنة أديليد، وكانت امرأة ممتلئة الجسم قصيرة في الثلاثينيات من عمرها، وقد اصطحبت فرانسيس إلى الطابق العلوي لتلقي نظرة أخيرة على أديليد التي كانت مغلقة الفم وصامتة على نحو لم تكن عليه خلال حياتها قط. «انظري ما فعلوه، لقد خاطوا فكيها لإطباق أحدهما على الآخر، هكذا يغلقون أفواه الموتى الآن، يخيطون فكيهم فلا تبدو أفواههم طبيعية. كانوا قديما يضعون حشوات صغيرة في أفواههم ويجعلون شفاهم أكثر سمكا، ولكنهم ما عادوا يفعلون ذلك الآن؛ فهو أمر مجهد.»
أتى إلى فرانسيس رجل شاحب وبدين متكئ على عكازين. «لا أعلم ما إن كنت تتذكرينني، كنت جار كلارك وأديليد. أنا فريد بيتشر.»
قالت فرانسيس: «أجل، أتذكرك.» مع أنها لم تفكر لحظة كيف تتذكره. استرجعت ذكرياتها خلال حديثها معه. تحدث معها عن ذكريات العلاقات الطيبة بين الجيران وأديليد، وأخبرها بالعلاجات التي يتلقاها لالتهاب المفاصل. تذكرت فرانسيس أن أديليد قالت إنه تقيأ في الثلج، فأعربت له عن شفقتها عليه بسبب الآلام والصعوبة التي يتكبدها في المشي، ولكنها أرادت حقا إخباره بمدى شفقتها عليه بسبب الحادث. ولكن، لو لم يخرج في الثلج في ذلك اليوم لينقل عربة أطفال عبر المدينة، لما عاشت فرانسيس في أوتاوا الآن، وما كانت لتحظى بابنتيها، وما كانت لتحظى بحياتها. كانت ستصبح حياتها مختلفة، هذا حقيقي، إنها متأكدة من ذلك، ولكن من المؤلم التفكير فيه. فالزاوية التي تنظر بها إلى ذلك الآن لا يمكن الاعتراف بوجودها أبدا؛ سيبدو الأمر بشعا. ولو لم يخرج في ذلك اليوم - هكذا جال في فكرها وهي تتحدث إليه - أين كنا سنصير جميعا الآن؟ سيكون بوبي في قرابة الأربعين من عمره، ولربما أصبح مهندسا - فاهتماماته الطفولية التي يسترجعها تيد الآن كثيرا جعلت هذا الاحتمال مرجحا - كان سيعمل في وظيفة مناسبة، وربما مميزة، وربما كانت له زوجة وأطفال، وكانت جريتا ستذهب للاطمئنان على تيد في المستشفى وتتابع حالته الصحية. وربما كانت فرانسيس ستظل هنا، في هانراتي، تدرس الموسيقى؛ ولربما كانت في مكان آخر، وربما كانت ستتعافى من حبه، وتحب شخصا آخر، أو لربما ازدادت قسوة وعزلة بسبب جرحها.
فكرت فرانسيس: «يا له من اختلاف!» لا تعلم من أين أتت هذه الفكرة أو مغزاها، بالتأكيد هناك اختلاف، وأي شخص يستطيع أن يرى هذا، اختلاف في الحياة. لقد حظيت بحبيبها، وفضيحتها، وزوجها، وابنتيها. ولكنها في قرارة نفسها تمضي في الحياة، وحدها، فرانسيس نفسها التي كانت تعيش على هذه الحال قبل حدوث أي من هذا.
بالتأكيد ليست فرانسيس نفسها بالضبط كما كانت.
Halaman tidak diketahui