بعد أن نظرت إلى وجهها في المرآة أغلقت مصابيح الإضاءة، وبدلا من العودة إلى الفرقة الموسيقية صعدت إلى الطابق العلوي. خلال الفترة الصباحية في الشتاء تخيم الكآبة على المدرسة؛ حيث تكون درجة الحرارة منخفضة لأن الشمس لم تشرق بعد، والجميع يتثاءب ويرتجف، وأطفال الريف الذين تركوا منازلهم في ظلمة الليل يفركون أعينهم من النعاس. ولكن بحلول هذا الوقت من اليوم، بحلول وقت العصاري، شعرت فرانسيس بهمهمة في أرجاء المكان تبعث على الشعور بالارتياح، وساد بين الطالبات قدر مسموح به من النعاس، بينما ينعكس ضوء النهار على الألواح الخشبية داكنة اللون المبطنة للأجزاء التحتية من الجدران، وتتكدس المعاطف الصوفية غير المزخرفة والأوشحة والأحذية ذات الرقبة العالية وأدوات التزلج وعصي الهوكي في غرفة إيداع الثياب. وعبر النوافذ الفوقية المفتوحة بأبواب الفصول، تسمع تعليمات متعلقة بالمناهج الدراسية من إملاءات فرنسية وحقائق ثابتة. وإلى جانب كل هذا النظام والإذعان له، يسود شعور ملح معتاد - شعور بالتوق أو التحذير - أن مجموعة غريبة من الأشياء التي يمكنك استشعارها أحيانا في الموسيقى أو في منظر طبيعي مكبوتة بالكاد وتنذر بالانفجار والكشف عن ذاتها، ولكنها لا تفعل، بل تذوب وتتلاشى.
وقفت فرانسيس في مواجهة باب فصل العلوم مباشرة، وكانت النافذة الفوقية من الباب مفتوحة، فأمسى بوسعها سماع أصوات المعدات الزجاجية، وهمسات الطالبات، وتحرك الكراسي. لا بد أنه طلب منهم إجراء تجربة. وعلى نحو سخيف ومخز، شعرت بالتعرق في كفيها، وزيادة ضربات قلبها، تماما مثلما كانت تشعر قبل اختبار بيانو أو حفل موسيقي. إن هذا الجو المتأزم، والاحتمالات المفترضة بالفوز أو الفشل التي يمكنها تحويلها إلى حقيقة لنفسها وللآخرين؛ كل ذلك يبدو الآن ملفقا وسخيفا وزائفا. ولكن ماذا عن هذا الأمر؛ عن علاقتها بتيد ماكافالا؟ حتى الآن، لم تبتعد فرانسيس عن هذه العلاقة، حتى إنها لا تستطيع تمييز مدى السخافة التي يمكن أن تبدو عليها لأي فرد يراها. لا بأس، لو كانت السخافة تعني المخاطرة والطيش، فهذا لا يهمها؛ فربما جل ما تريده هو فرصة للمغامرة. لكن ثمة فكرة تراودها أحيانا بأن قصة الحب يمكن ألا تكون زائفة، ولكنها بطريقة ما مصطنعة ومتعمدة، أو فرصة متاحة، تماما شأنها شأن ذلك الأداء التعليمي السخيف؛ فهي اختراع آيل للسقوط. ولكن هذه الفكرة لا يمكن لفرانسيس المغامرة بها، ولهذا تنحيها جانبا.
من خلال النافذة، سمعت فرانسيس صوت طالبة مرتبكة وتشكو شيئا (وهذه سمة أخرى من سمات طالبات المدرسة الثانوية؛ فهن يتذمرن عندما لا يفهمن؛ ولهذا فعدم احترام الصبية للمدرس وتذمرهم أفضل من شكوى الفتيات). ثم تحدث تيد بصوت خفيض مجيبا عن الأسئلة ومفسرا. لم تستطع فرانسيس أن تسمع كلماته، ولكنها تخيلت أنه يميل بلطف لمساعدتهن، ويؤدي إحدى المهام العادية مثل خفض شعلة موقد بنزن. وقد كانت تحب أن تتخيله إنسانا مجدا في عمله، صبورا، غير معتمد على الآخرين. ولكنها كانت تعلم - أو بالأحرى بلغها - أن سلوكياته في الفصل تختلف عما رسمه في مخيلتها أو مخيلة الآخرين. فمن عادته التحدث عن عمله وعن طلابه بقدر من الازدراء والسخرية، وإذا سئل عن نوع التأديب الذي يفضله لضبط السلوك في الفصل، فسيقول: أوه، ليس الكثير، ربما لكمة في الفم، أو ركلة سريعة في المؤخرة. والحقيقة أنه ينال اهتمام طلابه بجميع أنواع الحيل والمداهنات، ويستعين بأدوات مثل الطراطير لعقاب الكسالى، وصفارات عيد الميلاد، ويواصل تحدي غبائهم بطريقة ميلودرامية للغاية، وذات مرة أحرق أوراق الاختبار خاصتهم ورقة ورقة في الحوض. وكانت فرانسيس تسمع الطالبات دوما تصفنه على هذا النحو: «شخصية غريبة!» لكنها لا تحب أن تسمعهن يقلن هذا، بيد أنها متأكدة أنهن يقلن هذا عنها أيضا؛ فهي نفسها تستخدم أساليب مبالغا فيها؛ فكانت تحرك أصابعها خلال شعرها الكثيف وتنتحب قائلة: «لا، لا، لا، لا» عندما يتدنى مستوى الغناء. ولكنها كانت تفضل ألا يضطر إلى القيام بمثل هذه الأمور؛ إذ كانت تخجل أحيانا من ذكر اسمه، ومن سماعها ما يقوله الناس عنه. ومع أنهم يصفونه بأنه ودود، يجول بخاطرها أن نبرة صوتهم تشي ببعض الحيرة وبعض الازدراء؛ ولذا كانت تتساءل: لماذا يضطر إلى تحمل هذا؟ فهي تعرف رأيه عن هذه المدينة ومن يعيشون فيها، أو ما يدعي أنه رأيه.
فتح الباب وتحرجت فرانسيس في صدمة؛ فآخر ما تريده هو أن يجدها تيد هنا تتنصت وتتجسس عليه. ولكنه لم يكن تيد، حمدا لله، إنها سكرتيرة المدرسة، امرأة جادة ممتلئة الجسم شغلت منصب السكرتيرة منذ أمد بعيد، منذ أن كانت فرانسيس نفسها طالبة بالمدرسة، بل وقبلها أيضا. إنها مخلصة للمدرسة وللدروس الدينية التي تعطيها في الكنيسة المتحدة. «أهلا بك يا عزيزتي، هل تستنشقين الهواء؟»
لم تكن النافذة التي تقف فرانسيس بجوارها مفتوحة بالطبع، بل وحتى شقوقها كانت مغطاة بشريط لاصق. ولكن فرانسيس لدى طرح هذا السؤال عليها رسمت على وجهها تعبيرا مازحا يؤيد كلام السكرتيرة قائلة: «متغيبة عن الفصل.» مقرة بعدم وجودها في فصلها. فذهبت السكرتيرة في هدوء إلى الدرج للنزول إلى الطابق السفلي وهي تخاطب فرانسيس بصوت حنون. «أداء فرقتك الموسيقية رائع اليوم؛ لطالما أحببت موسيقى الكريسماس.»
عادت فرانسيس إلى فصلها وجلست وراء مكتبها، مبتسمة للوجوه التي تصدح بالغناء. غنين «المدينة المقدسة» ثم من تلقاء أنفسهن بدأن غناء «ترنيمة ويستمنستر» كانت تبدو عليهن السخافة، ولكن ما بيدهن حيلة؛ فالغناء شيء سخيف بكل ما في الكلمة من معنى. لم تعتقد أبدا أنهن سيلاحظن ابتسامتها ويذكرن الأمر لاحقا قائلات إنها خرجت بالضرورة لتقابل تيد في الردهة. إن اعتقاد فرانسيس بأن علاقتها الغرامية سرية يبين بوضوح شديد افتقارها إلى الطبيعة الفطرية التي يتسم بها أهل المدن الصغيرة، ويبين كذلك ثقة وطيشا لا تدرك هي وجودهما في شخصيتها، وهذا ما يقصده الناس عندما يقولون عنها إن هذا الأمر يوضح بالطبع أنها غريبة عن المدينة، لكنها في الواقع لم تغب عن المدينة سوى أربع سنوات فقط قضتهم في معهد الموسيقى للدراسة. لكن الحقيقة هي أنها لطالما افتقرت إلى الحيطة. فبقامتها الطويلة وجسدها المتناسق ومنكبيها الضيقين، كانت تشبه الغرباء في حركتها السريعة، ونظراتها الشاردة، ونبرتها العالية، وما يحمله صوتها من توتر، وكذلك كانت تشبههم في براءة افتراضها أنها ليست محطا للأنظار وهي تتنقل على عجل من مكان إلى آخر في أرجاء المدينة وذراعاها محملتان بكتب الموسيقى، وتنادي على أناس على الجانب الآخر من الطريق وتوجه لهم رسائل تشي بالترتيبات المتذبذبة - بل والتي تبدو أحيانا مستحيلة - في حياتها. «أخبري بوني بألا تحضر حتى الساعة الثالثة والنصف!» «هل وجدت المفاتيح؟ لقد تركتها في المكتب.»
كانت على نفس هذه الحال في طفولتها؛ إذ أصرت أيما إصرار على أن تتعلم عزف البيانو، مع أن عائلتها لم يكن لديها بيانو في الشقة التي تعلو متجر الإلكترونيات حيث كانت تعيش مع والدتها وشقيقها (وكانت والدتها أرملة تقبض راتبا هزيلا من عملها في هذا المتجر). وبطريقة ما، تدبرت فرانسيس أمر الخمسة والثلاثين سنتا كل أسبوع اللازمة لتعلم البيانو، ولكن البيانو الوحيد الذي رأته كان بيانو معلمتها، أما في البيت، فكانت تتمرن على لوحة مفاتيح مرسومة بالقلم الرصاص على عتبة النافذة. وكان ثمة مؤلف موسيقي - يدعى هاندل، أكان هذا اسمه؟ - اعتاد التمرن على البيانو القيثاري في علية المنزل وهو يحكم إغلاق الباب كي لا يعرف أبوه مدى ولعه بالموسيقى. (والسؤال الشائق هنا هو كيف نجح هذا المؤلف الموسيقي في إدخال البيانو إلى ذلك المكان خلسة؟) لو كانت فرانسيس أصبحت عازفة بيانو مشهورة، لتحولت لوحة المفاتيح على عتبة نافذتها - التي تطل على الزقاق وسقف حلبة الكيرلنج - إلى أسطورة أخرى مثل أسطورة البيانو القيثاري.
مما قاله بول - الذي كان خطيبها وزميلها في المعهد - أيضا: «لا تحسبي أنك عبقرية، لأنك لست كذلك.» هل فكرت في هذا؟ كانت تعتقد أن المستقبل يخبئ لها شيئا مميزا. لم تفكر حتى في الأمر بوضوح، ولكنها تصرفت وكأنها فكرت فيه؛ فعادت إلى موطنها، وبدأت تدرس الموسيقى، أيام الإثنين في المدرسة الثانوية، وأيام الأربعاء في المدرسة الخاصة، وأيام الثلاثاء والخميس في المدارس الصغيرة بالريف، أما أيام السبت فمخصصة للتمرن على الأرجن وإعطاء الدروس الخصوصية، وأيام الأحد كانت تعزف في الكنيسة المتحدة.
وفي الكريسماس، كانت فرانسيس تكتب على بطاقات المعايدة التي ترسلها إلى أصدقائها القدامى في معهد الموسيقى: «ما زلت أتخبط في هذه العاصمة الثقافية العظيمة.» فما إن ماتت والدتها، وبمجرد أن شعرت بالحرية والانطلاق، شرعت فرانسيس في بدء حياة مستقلة غير واضحة الملامح، حياة ترضيها على نحو أفضل بلا حدود، حياة لم تزل بانتظارها. وكانت صديقاتها يرسلن رسائل توحي غالبا بنبرة التشتت والريبة نفسها. «أنجبت طفلا آخر، وكم أنا مشغولة، فيداي دوما في حوض الغسيل أنظف الحفاظات أكثر مما أمرنهما على لوحة المفاتيح.» كن جميعا في بداية الثلاثين من العمر. وهو عمر من الصعب أحيانا أن تعترف فيه الواحدة منا بأن ما تعيشه هو حياتها بالفعل.
كانت الرياح تحني الأشجار بالخارج حيث تغطيها الثلوج. عاصفة ثلجية بسيطة. أمر لا يثير الانتباه في هذه البقعة من الريف. وعلى عتبة النافذة توجد قنينة حبر من النحاس البالي بها ريشة طويلة، وهو شيء مألوف يجعل فرانسيس تفكر في ألف ليلة وليلة، أو شيء من هذا القبيل، شيء يبشر أو يوحي بوقوع أحداث غريبة وغامضة ومبهجة. •••
Halaman tidak diketahui