[الجزء الاول]
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة التحقيق
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) [آل عمران: ١٠٢] .
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيرًا وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١) [النساء: ١] .
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزًا عَظِيمًا (٧١) [الأحزاب: ٧٠- ٧١] .
أما بعد، فإن التفسير المسمى «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» «١» للعلامة القاضي المفسّر ناصر الدين أبي الخير، عبد الله بن عمر بن علي البيضاوي الشيرازي، الشافعي (ت ٦٨٥ هـ) يعتبر من أهمّ كتب التفسير بالرأي «٢»، فهو كتاب جليل دقيق، جمع بين التفسير والتأويل على قانون اللغة العربية، وقرّر الأدلة على أصول السّنّة.
وقد اختصره مؤلّفه من «كشاف» الزمخشري «٣» محمود بن عمر أبي القاسم (ت ٥٣٨ هـ) مع ترك ما فيه من اعتزالات، كما استمدّه من «مفاتيح الغيب» للفخر الرازي «٤» محمد بن عمر بن حسين الشافعي الطبرستاني (ت ٦٠٦ هـ) وبه تأثر عند عرضه للآيات الكونية ومباحث الطبيعة، ومن تفسير الراغب الأصبهاني الحسين بن محمد بن المفضل أبي القاسم (ت ٥٠٢ هـ) المسمى «تحقيق البيان في تأويل القرآن»، فأصبح من أمهات كتب التفسير التي لا يستغني عنها الطالب لفهم كلام الله ﷿.
والبيضاوي ﵀ مقل جدّا من الروايات الإسرائيلية، لكنه يذكر في نهاية كل سورة حديثا في فضلها- كما وقع فيه صاحب «الكشاف» - وهي موضوعة باتفاق أهل الحديث وهذا من هناته ﵀.
هذا وقد ضمّن البيضاوي تفسيره نكتا بارعة، واستنباطات دقيقة، كل هذا في أسلوب رائع موجز، وهو يهتم أحيانا بذكر القراءات، ولكنه لا يلتزم المتواتر منها، فيذكر الشاذ، كما أنه يتعرض لبعض المسائل الفقهية عند آيات الأحكام دون توسع منه، مع عرض للصناعة النحوية.
ونظرا لما يحتله هذا الكتاب من أهمية في عالم التفاسير، فقد وضع عليه العلماء الحواشي والتعليقات
_________
(١) طبع مرات عديدة، منها طبعة دار الكتب العربية الكبرى بمصر عام ١٣٣٠ هـ/ ١٩١٠ م وبهامشه حاشية العلامة الكازروني (ت ٩٤٥ هـ) في خمس أجزاء في مجلدين، وهي الأصل الذي اعتمدناه في طبعتنا هذه وعليه ختم المطبعة الميمنيّة بمصر عام ١٣٠٦.
(٢) كما أكده العلامة محمد عبد العظيم الزرقاني في كتابه «مناهل العرفان في علوم القرآن» (١/ ٥٣٥) .
(٣) طبع مؤخرا بدار إحياء التراث العربي في طبعته الأولى عام (١٤١٧ هـ/ ١٩٩٧ م) بتحقيق عبد الرزاق المهدي.
(٤) طبع بدار إحياء التراث العربي بحلّة قشيبة وملونة ومصححة عام (١٤١٥ هـ/ ١٩٩٥ م) .
1 / 5
الكثيرة، فمنهم من علّق تعليقة على سورة منه، ومنهم من حشّى تحشية تامة، ومنهم من كتب على بعض مواضع منه «١» .
وأحسن حواشيه المتداولة حاشية الشهاب الخفاجي المصري أحمد بن محمد بن عمر (ت ١٠٦٩ هـ) وسماها «عناية القاضي وكفاية الراضي» وهي مطبوعة وتقع في ثمانية مجلدات «٢» .
ونظرا لما يحتله هذا الكتاب من أهمية، فقد رأت دار إحياء التراث العربي طبعه بهذه الحلة القشيبة، بعد ما قامت بتصحيح ألفاظه وتجاربه ومراجعته بما قدّر الله به وأعان.
هذا وقد وضعنا وراء هذه الكلمة مقدمة: ترجمنا فيه لمؤلف هذا التفسير، وعرّفنا به، وبطريقة مؤلّفه فيه بشيء من التفصيل مع ذكر التعليقات والحواشي عليه.
ربّنا تقبّل منا هذا العمل خالصا لوجهك الكريم، واجعله في صحائف أعمال أصحابه وانفع به، إنك يا مولانا على كل شىء قدير وبالإجابة جدير.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى من اهتدى بهديهم إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أَنِ الحمد للَّهِ رَبّ العالمين.
وكتبه محمد عبد الرحمن المرعشلي بيروت ٢١ شوال ١٤١٨ هـ الموافق ١٨ شباط ١٩٩٨
_________
(١) وقد وصلت هذه الحواشي والتعليقات إلى نحو خمسين حاشية وتعليقة انظرها في الصفحة (١٦) .
(٢) انظرها في «أعلام» الزركلي (١/ ٢٣٨) .
1 / 6
مقدمة
أولا: ترجمة صاحب التفسير
ثانيا: التعريف بأنوار التنزيل وطريقة مؤلفه فيه
- اختصار البيضاوي تفسيره من «الكشاف» للزمخشري
- استمداد البيضاوي تفسيره من «مفاتيح الغيب» للرازي ومن «تفسير الراغب الأصفهاني»
- اهتمامه بالقراءات وذكر الشاذ منها
- عرضه للصناعة النحوية
- تعرضه لبعض المسائل الفقهية دون توسّع
- تقرير وترجيح مذهب أهل السّنّة
- التقليل من ذكر الروايات الإسرائيلية
- الخوض في مباحث الكون والطبيعة تأثرا بالرازي
- تقريظ هذا التفسير
- قول الإمام جلال الدين السيوطي في حاشيته «نواهد الأبكار وشواهد الأفكار»
- قول حاجي خليفة في «كشف الظنون»
- الحواشي المكتوبة على تفسير البيضاوي
1 / 7
أولا: ترجمة صاحب التفسير «١»
١- اسمه ونسبه:
هو العلامة المفسّر قاضي القضاة، ناصر الدين، أبو الخير (وقيل أبو سعيد) عبد الله بن عمر بن علي البيضاوي الشيرازي، الشافعي- بفتح الباء المنقوطة بواحدة وسكون الياء المنقوطة باثنتين من تحتها وفتح الضاد المعجمة وفي آخرها الواو- هذه النسبة إلى بيضاء وهي بلدة من بلاد فارس. لم تذكر المصادر سنة ولادته.
٢- نبوغه:
قال السيوطي في «بغية الوعاة»: كان إماما علّامة، عارفا بالفقه والأصلين والعربية والمنطق، نظّارا صالحا، متعبّدا، شافعيّا.
وقال ابن قاضي شهبة في «طبقاته»: «صاحب المصنفات، وعالم أذربيجان، وشيخ تلك الناحية» .
قال السبكي في «طبقاته الكبرى»:
ولي قضاء القضاء بشيراز، ودخل تبريز، وناظر بها، وصادف دخوله إليها مجلس درس قد عقد بها لبعض الفضلاء، فجلس القاضي ناصر الدين في أخريات القوم، بحيث لم يعلم به أحد، فذكر المدرّس نكتة زعم أن أحدا من الحاضرين لا يقدر على جوابها، وطلب من القوم حلّها، والجواب عنها، فإن لم يقدروا فالحلّ فقط، فإن لم يقدروا فإعادتها.
فلما انتهى من ذكرها، شرع القاضي ناصر الدين في الجواب، فقال له: لا أسمع حتى أعلم أنك فهمتها. فخيّره بين إعادتها، بلفظها أو معناها، فبهت المدرّس، وقال: أعدها بلفظها. فأعادها.
ثم حلّها وبيّن أن في تركيبه إيّاها خللا، ثم أجاب عنها، وقابلها في الحال بمثلها، ودعا المدرّس إلى حلّها، فتعذّر عليه ذلك، فأقامه الوزير من مجلسه، وأدناه إلى جانبه، وسأله من أنت؟ فأخبره أنه البيضاويّ، وأنه جاء في طلب القضاء بشيراز، فأكرمه، وخلع عليه في يومه، وردّه وقد قضى حاجته.
وأهمله الذهبي ولم يذكره في «العبر» كما قال ابن شهبة.
٣- ثناء العلماء عليه:
قال السبكي: «كان إماما مبرزا نظارا خيرا، صالحا متعبدا» .
_________
(١) «البداية والنهاية» لابن كثير (١٣/ ٣٠٩)، و«الفهرس التمهيدي» الصفحة (٢٠٥) و(٥٦١)، وبروكلمان «دائرة المعارف الإسلامية» (٤/ ٤١٨)، و«بغية الوعاة» للسيوطي (٢/ ٥٠- ٥١) ترجمة رقم (١٤٠٦)، و«نزهة الجليس ومنية الأديب النفيس» للموسوي (٢/ ٨٧)، و«مفتاح السعادة» لطاش كبرى زاده (١/ ٤٣٦)، و«طبقات الشافعية الكبرى» للسبكي (٨/ ١٥٧) بتحقيق الحلو، ترجمة رقم (١١٥٣) و«طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (٢/ ٢٨) ترجمة (٤٦٩) بتحقيق عبد العليم خان، و«طبقات الشافعية» للإسنوي (١/ ١٣٦) ترجمة (٢٦٠)، و«شذرات الذهب» لابن العماد (٥/ ٣٩٢- ٣٩٣)، و«مرآة الجنان» لليافعي (٤/ ٢٢٠)، و«إيضاح المكنون» (٢/ ٥٦٩)، و«هدية العارفين» للبغدادي (١/ ٤٦٢، ٤٦٣) و«كشف الظنون» لحاجي خليفة الصفحة (١٨٦، ١٠٣٢، ١١١٦، ١١٩٢، ١٢٧٣، ١٤٨١، ١٥٤٦، ١٦٩٨، ١٧٠٤، ١٧٠٥، ١٨٥٤، ١٨٥٨، ١٨٧٨)، و«طبقات المفسرين» للداوودي الصفحة (١٠٢- ١٠٣)، و«معجم المؤلفين» لكحالة (٦/ ٩٧)، و«الأعلام» للزركلي (٤/ ١١٠) .
1 / 9
وقال ابن حبيب: «وتكلم كل من الأئمة بالثناء على مصنفاته، ولو لم يكن له غير «المنهاج» الوجيز لفظه المحرر لكفاه» .
ولي القضاء بشيراز.
٤- ومن أهم مصنفاته:
١- كتاب «المنهاج» مختصر من الحاصل والمصباح و«شرحه» (في أصول الفقه) وهو «منهاج الوصول إلى علم الأصول» وهو مطبوع «١» .
٢- وكتاب «الطوالع» وهو «طوالع الأنوار»، مطبوع (في أصول الدين والتوحيد) قال السبكي: وهو أجلّ مختصر ألّف في علم الكلام.
٣- و«أنوار التنزيل وأسرار التأويل» (في التفسير) وسماه بعضهم «مختصر الكشاف»، وهو ما نحن بصدده الآن. وهذه الكتب الثلاثة من أشهر الكتب وأكثرها تداولا بين أهل العلم.
٤- «المصباح» (في أصول الدين) .
٥- «شرح مختصر ابن الحاجب» (في الأصول) .
٦- «شرح المنتخب في الأصول» للإمام فخر الدين.
٧- «شرح المطالع» (في المنطق) .
٨- «الإيضاح» (في أصول الدين) .
٩- «شرح الكافية» لابن الحاجب (في النحو) .
١٠- «لبّ اللباب في علم الإعراب» .
١١- «نظام التواريخ» كتبه باللغة الفارسية.
١٢- «رسالة في موضوعات العلوم وتعاريفها» مخطوط.
١٣- «الغاية القصوى في دراية الفتوى» مخطوط (في فقه الشافعية) مختصر «الوسيط» .
١٤- «شرح المصابيح» (أي مصابيح السّنّة للبغوي في الحديث) سماه «تحفة الأبرار» .
١٥- «شرح المحصول» .
١٦- «شرح التنبيه» (في أربعة مجلدات) .
١٧- «تهذيب الأخلاق» (في التصوف) .
_________
(١) وهو من أهم كتب الأصول عند الشافعية، وله شروح كثيرة، منها «نهاية السّول في شرح منهاج الأصول للبيضاوي» للإسنوي جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن (ت ٧٧٢ هـ) وهو مطبوع في القاهرة عام (١٤٤٣ هـ) ويقع في (٤) أجزاء بإدارة جمعية نشر الكتب العربية، ومنها «معراج المنهاج شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول للقاضي البيضاوي» تأليف شمس الدين الجزري، محمد بن يوسف (ت ٧١١ هـ)، وهو مطبوع أيضا ويقع في جزءين بتحقيق د/ شعبان محمد إسماعيل، مطبعة الحسين الإسلامية الطبعة الأولى عام (١٤١٣ هـ/ ١٩٩٣ م)، ومنها شرح البدخشي «مناهج العقول» للإمام محمد بن الحسن البدخشي وهو مطبوع في ثلاثة أجزاء في القاهرة وطبع بدار الكتب العلمية- بيروت في طبعته الأولى عام (١٤٠٥ هـ/ ١٩٨٤ م) وبأسفله «نهاية السّول» للإسنوي.
1 / 10
وفاته:
وتوفي بمدينة تبريز.
قال السّبكي والإسنوي: سنة (٦٩١ هـ) إحدى وتسعين وستمائة.
وقال ابن كثير وغيره: سنة (٦٨٥ هـ) خمس وثمانين وستمائة.
1 / 11
ثانيا: التعريف بأنوار التنزيل وطريقة مؤلّفه فيه «١»
تفسير العلامة البيضاوي، تفسير متوسط الحجم، جمع فيه صاحبه بين التفسير والتأويل، على مقتضى قواعد اللغة العربية، وقرر فيه الأدلة على أصول أهل السنة.
وقد اختصر البيضاوي تفسيره من «الكشاف» للزمخشري
ولكنه ترك ما فيه من اعتزالات، وإن كان أحيانا يذهب إلى ما ذهب إليه صاحب «الكشاف» .
ومن ذلك أنه عند ما فسر قوله تعالى في الآية (٢٧٥) من سورة البقرة: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) ... الآية، وجدناه يقول: «إلا قيامًا كقيام المصروع، وهو وارد على ما يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع» .. ثم يفسّر المس بالجنون ويقول «وهذا أيضًا من زعماتهم أن الجني يمس الرجل فيختلط عقله» .
ولا شك أن هذا موافق لما ذهب إليه الزمخشري من أن الجن لا تسلّط لها على الإنسان إلا بالوسوسة والإغواء.
كما أننا نجد البيضاوي قد وقع فيما وقع فيه صاحب «الكشاف»، من ذكره في نهاية كل سورة حديثا في فضلها وما لقارئها من الثواب والأجر عند الله، وقد عرفنا قيمة هذه الأحاديث، وقلنا إنها موضوعة باتفاق أهل الحديث، ولست أعرف كيف اغتربها البيضاوي فرواها وتابع الزمخشري في ذكرها عند آخر تفسيره لكل سورة، مع ما له من مكانة علمية، وسيأتي اعتذار بعض الناس عنه في ذلك، وإن كان اعتذارا ضعيفا، لا يكفي لتبرير هذا العمل الذي لا يليق بعالم كالبيضاوي له قيمته ومكانته.
استمد البيضاوي تفسيره من التفسير الكبير المسمى «بمفاتيح الغيب» للفخر الرازي، ومن تفسير الراغب الأصفهاني.
وضم لذلك بعض الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين.
كما أنه أعمل فيه عقله، فضمنه نكتا بارعة، ولطائف رائعة، واستنباطات دقيقة، كل هذا في أسلوب رائع موجز، وعبارة تدق أحيانا وتخفى إلّا على ذي بصيرة ثاقبة، وفطنة نيرة.
وهو يهتم أحيانا بذكر القراءات، ولكنه لا يلتزم المتواتر منها فيذكر الشاذ.
كما أنه يعرض للصناعة النحوية.
ولكن بدون توسع واستفاضة.
كما أنه يتعرض عند آيات الأحكام لبعض المسائل الفقهية بدون توسع منه في ذلك:
وإن كان يظهر لنا أنه يميل غالبا لتأييد مذهبه وترويجه، فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (٢٢٨) من سورة البقرة وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ يقول ما نصه: وقروء جمع قرء، وهو يطلق للحيض
_________
(١) اقتبسنا هذا من كلام الدكتور محمد حسين الذهبي في كتابه «التفسير والمفسرون» (١/ ٢٩٦) وما بعدها.
1 / 12
كقوله ﵊: دعي الصلاة أيام أقرائك، وللطهر الفاصل بين الحيضتين
، كقول الأعشى:
مُوَرِّثَةٌ مَالًا وَفِي الحَيِّ رفْعَةٌ ... لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نائكا
وأصله الانتقال من الطهر إلى الحيض، وهو المراد في الآية لأنه الدال على براءة الرحم لا الحيض كما قاله الحنفية، لقوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: ١] أي وقت عدتهن، والطلاق المشروع لا يكون في الحيض.
وأما
قوله ﵊: طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان
، فلا يقاوم ما رواه الشيخان في قصة ابن عمر: مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء ... إلخ.
كذلك نجد البيضاوي كثيرا ما يقرر مذهب أهل السنة:
عند ما يعرض لتفسير آية لها صلة بنقطة من نقط النزاع بينهم وبين مذهب المعتزلة.
فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى في الآيتين (٢، ٣) من سورة البقرة ... هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) نراه يعرض لبيان معنى الإيمان والنفاق عند أهل السنة والمعتزلة والخوارج، بتوسع ظاهر، وترجيح منه لمذهب أهل السنة.
ومثلا عند تفسيره لقوله تعالى في أول سورة البقرة أيضا: ... وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: ٣] نراه يتعرض للخلاف الذي بين أهل السنة والمعتزلة فيما يطلق عليه اسم الرزق، ويذكر وجهة نظر كل فريق مع ترجيحه لمذهب أهل السنة.
والبيضاوي ﵀ مقلّ جدا من ذكر الروايات الإسرائيلية:
وهو يصدر الرواية بقوله: روي أو قيل، إشعارا منه بضعفها.
فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية: (٢٢) من سورة النمل فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) [النمل: ٢٢] يقول بعد فراغه من تفسيرها:
روي أنه ﵇ لما أتم بناء بيت المقدس تجهز للحج.
إلخ القصة التي يقف البيضاوي بعد روايتها موقف المجوز لها. غير القاطع بصحتها، حيث يقول ما نصه «ولعل في عجائب قدرة لله وما خص به خاصة عباده أشياء أعظم من ذلك، يستكبرها من يعرفها، ويستنكرها من ينكرها» .
ثم إن البيضاوي إذا عرض للآيات الكونية، فإنه لا يتركها بدون أن يخوض في مباحث الكون والطبيعة ولعل هذه الظاهرة سرت إليه من طريق «التفسير الكبير» للفخر الرازي، الذي استمد منه كما قلنا.
فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى: فَأَتْبَعَهُ ... شِهابٌ ثاقِبٌ [الصافات: ١٠] نراه يعرض لحقيقة الشهاب فيقول: الشهاب ما يرى كأن كوكبًا انقض. ثم يرد على من يخالف ذلك فيقول: وما قيل إنه بخار يصعد إلى الأثير فيشتعل فتخمين، إن صح لم يناف ذلك..» إلى آخر كلامه في هذا الموضوع.
قال البيضاوي نفسه في مقدمة «تفسيره» هذا بعد الديباجة ما نصه:
«... ولطالما أحدّث نفسي بأن أصنف في هذا الفن- يعني التفسير- كتابا يحتوي على صفوة ما بلغني من عظماء الصحابة، وعلماء التابعين ومن دونهم من السّلف الصالحين، وينطوي على نكات بارعة، ولطائف رائعة، استنبطتها أنا ومن قبلي من أفاضل المتأخرين، وأماثل المحققين، ويعرب عن وجوه القراءات المشهورة المعزية إلى الأئمة الثمانية المشهورين، والشواذ المروية عن القراء المعتبرين، إلا أن قصور بضاعتي يثبطني عن الإقدام، ويمنعني عن الانتصاب في هذا المقام، حتى سنح لي بعد الاستخارة ما صمم به عزمي على
1 / 13
الشروع فيما أردته، والإتيان بما قصدته، ناويا أن أسميه «بأنوار التنزيل وأسرار التأويل ...» «١» .
ويقول في آخر الكتاب «٢» ما نصه: «وقد اتفق إتمام تعليق سواد هذا الكتاب المنطوي على فوائد ذوي الألباب، المشتمل على خلاصة أقوال أكابر الأئمة، وصفوة آراء أعلام الأمة، في تفسير القرآن وتحقيق معانيه، والكشف عن عويصات ألفاظه ومعجزات مبانيه، مع الإِيجاز الخالي عن الإخلال، والتلخيص العاري عن الإضلال، المرسوم «بأنوار التنزيل وأسرار التأويل ...» .
وكأني به في هذه الجملة الأخيرة، يشير إلى أنه اختصر من تفسير «الكشاف» ولخص منه، ضمن ما اختصره ولخصه من كتب التفسير الأخرى، غير أنه ترك ما فيه من نزعات الضلال، وشطحات الاعتزال.
تقريظ هذا التفسير:
١- قول الإمام السيوطي في هذا التفسير:
ويقول الجلال السيوطي- ﵀ في حاشيته على هذا التفسير المسماة ب «نواهد الأبكار وشوارد الأفكار» ما نصه:
«وإن القاضي ناصر الدين البيضاوي لخّص هذا الكتاب فأجاد، وأتى بكل مستجاد، وماز فيه أماكن الاعتزال، وطرح موضع الدسائس وأزال، وحرر مهمات، واستدرك تتمات، فظهر كأنه سبيكة نضار، واشتهر اشتهار الشمس في رائعة النهار، وعكف عليه العاكفون، ولهج بذكر محاسنه الواصفون، وذاق طعم دقائقه العارفون، فأكبّ عليه العلماء تدريسا ومطالعة، وبادروا إلى تلقيه بالقبول رغبة فيه ومسارعة» «٣» .
٢- ويقول صاحب «كشف الظنون» «٤» ما نصه:
وتفسيره هذا- يريد تفسير البيضاوي- كتاب عظيم الشأن، غني عن البيان، لخص فيه من «الكشاف» ما يتعلق بالإعراب والمعاني والبيان، ومن «التفسير الكبير» ما يتعلق بالحكمة والكلام، ومن «تفسير الراغب» ما يتعلق بالاشتقاق وغوامض الحقائق ولطائف الإشارات.
وضم إليه ما روى زناد فكره من الوجوه المعقولة، فجلا رين الشك عن السريرة، وزاد في العلم بسطة وبصيرة، كما قال مولانا المنشي:
أولوا الألباب لم يأتوا ... بكشف قناع ما يتلى
ولكن كان للقاضي ... يد بيضاء لا تبلى
ولكونه متبحرا جال في ميدان فرساون الكلام، فأظهر مهارته في العلوم حسبما يليق بالمقام. كشف القناع تارة عن وجوه محاسن الإشارة، وملح الاستعارة، وهتك الأستار أخرى عن أسرار المعقولات بيد الحكمة ولسانها، وترجمان المناطقة وميزانها، فحل ما أشكل على الأنام، وذلّل لهم صعاب المرام، وأورد في المباحث الدقيقة ما يؤمن به عن الشبه المضلة وأوضح لهم مناهج الأدلة.
والذي ذكره من وجوه التفسير ثانيا أو ثالثا أو رابعا بلفظ قيل، فهو ضعيف ضعف المرجوح أو ضعف المردود.
_________
(١) انظر مقدمة الجزء الأول.
(٢) من الجزء الخامس.
(٣) «المدخل المنير» للشيخ مخلوف الصفحة (٤١) .
(٤) «كشف الظنون» لحاجي خليفة الصفحة (١٨٧) .
1 / 14
وأما الوجه الذي تفرد فيه، وظن بعضهم أنه مما لا ينبغي أن يكون من الوجوه التفسيرية السنية، كقوله:
وحمل الملائكة العرش وحفيفهم حوله مجاز عن حفظهم وتدبيرهم له «١»، ونحوه، فهو ظن من لعله يقصر فهمه عن تصور مبانيه، ولا يبلغ علمه إلى الإحاطة بما فيه، فمن اعترض بمثله على كلامه كأنه ينصب الحبالة للعنقاء، ويروم أن يقنص نسر السماء لأنه مالك زمام العلوم الدينية، والفنون اليقينية، على مذهب أهل السنة والجماعة.
وقد اعترفوا له قاطبة بالفضل المطلق، وسلموا إليه قصب السبق، فكان تفسيره يحتوي فنونا من العلم وعرة المسالك، وأنواعا من القواعد المختلفة الطرائق، وقل من برز في فن إلّا وصده عن سواه وشغله، والمرء عدوّ لما جهله، فلا يصل إلى مرامه إلا من نظر إليه بعين فكره، وأعمى عين هواه، واستعبد نفسه في طاعة مولاه، حتى يسلم من الغلط والزلل، ويقتدر على رد السفسطة والجدل.
وأما أكثر الأحاديث التي أوردها في أواخر السور، فإنه لكونه ممن صفت مرآة قلبه، وتعرض لنفحات ربّه، تسامح فيه، وأعرض عن أسباب التجريح والتعديل، ونحا نحو الترغيب والتأويل، عالما بأنها مما فاه صاحبه بزور، ودلى بغرور.
ثم إن هذا الكتاب رزق من عند الله ﷾ بحسن القبول عند جمهور الأفاضل والفحول، فعكفوا عليه بالدرس والتحشية، فمنهم من علق تعليقه على سورة منه، ومنهم من حشى تحشية تامة، ومنهم من كتب على بعض مواضع منه» «٢» انتهى.
وأشهر هذه الحواشي وأكثرها تداولا ونفعا: «حاشية قاضي زاده»، و«حاشية الشهاب الخفاجي»، و«حاشية القونوي» .
وجملة القول، فالكتاب من أمهات كتب التفسير، التي لا يستغني عنها من يريد أن يفهم كلام الله تعالى.
_________
(١) انظر تفسير البيضاوي عند قوله تعالى في الآية (٧) من سورة غافر الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ... الآية» . [.....]
(٢) «كشف الظنون»: لحاجي خليفة (١/ ١٨٧- ١٨٨) .
1 / 15
الحواشي والتعليقات المكتوبة على تفسير البيضاوي «١»
وهي كثيرة جدا، وصل بها صاحب «كشف الظنون» إلى نحو خمسين، منها ما يقع في مجلدات، ومنها دون ذلك، وهي تعكس أهمية هذا التفسير، ومنها:
١- حاشية العالم الفاضل محيي الدين محمد بن الشيخ مصلح الدين مصطفى القوجوي المتوفى سنة إحدى وخمسين وتسعمائة (ت ٩٥١ هـ) .
وهي أعظم الحواشي فائدة وأكثرها نفعا وأسهلها عبارة، كتبها أولا على سبيل الإيضاح والبيان للمبتدئ في ثماني مجلدات، ثم استأنفها ثانيا بنوع تصرف فيه وزيادة عليه، فانتشر هاتان النسختان وتلاعب بهما أيدي النسّاخ حتى كاد أن لا يفرق بينهما. ولبعض الفضول منتخب تلك الحاشية، ولا يخفى أنها من أعزّ الحواشي وأكثرها قيمة واعتبارا وذلك لبركة زهده وصلاحه.
٢- حاشية العالم مصلح الدين مصطفى بن إبراهيم المشهور بابن التمجيد (ت نحو ٨٨٠ هـ) .
معلم السلطان محمد خان الفاتح وهي مفيدة جامعة أيضا لخّصها من حواشي «الكشاف» في ثلاث مجلدات.
٣- حاشية الفاضل القاضي زكريا بن محمد الأنصاري المصري «٢» المتوفى سنة ست وعشرين وتسعمائة (٩٢٦ هـ) .
وهي في مجلد سماها «فتح الجليل ببيان خفي أنوار التنزيل»، أولها: الحمد لِلَّهِ الذى أَنْزَلَ على عبده الكتاب، نبه فيها على الأحاديث الموضوعة التي في أواخر السور.
٤- حاشية الشيخ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي المتوفى سنة إحدى عشرة وتسعمائة (ت ٩١١ هـ) .
وهي في مجلد أيضا سماه «نواهد الأبكار وشوارد الأفكار» .
٥- حاشية الفاضل أبي الفضل القرشي الصديقي الخطيب المشهور بالكازروني المتوفى في حدود سنة أربعين وتسعمائة (٩٤٥ هـ) .
وهي حاشية لطيفة في مجلد، أورد فيها من الدقائق والحقائق ما لا يحصى، أولها الحمد لِلَّهِ الذى أَنْزَلَ آيات بينات محكمة.
٦- حاشية شمس الدين محمد بن يوسف الكرماني المتوفى سنة ست وثمانين وسبعمائة (٧٨٦ هـ) .
في مجلد أيضا أولها الحمد لله الذي وفقنا للخوض.
٧- حاشية العالم الفاضل محمد بن جمال الدين بن رمضان الشرواني (ت ١٠٦٣ هـ) .
في مجلدين أولها: قال الفقير بعد حمد الله العليم العلام.
_________
(١) انظر «كشف الظنون» لحاجي خليفة الصفحات (١٨٨- ١٩٣) .
(٢) ذكر الشعراني في «المنن» أن القاضي زكريا علّقه إملاء بعد أن كفّ بصره لما قرأ عليه، قال: وغالبها بخطي وخط ولده جمال الدين، انتهى منه.
1 / 16
٨- حاشية الشيخ الفاضل صبغة الله بن إبراهيم الحيدري شيخ مشايخ بغداد في عصره (ت ١١٨٧ هـ) .
وهي كبرى وصغرى، جمع من ثماني عشرة حاشية.
٩- وحاشية صبغة الله بن روح الله بن جمال الله البروجي الحسيني النقشبندي الفقيه المتصوّف (ت ١٠١٥ هـ) وسمّاها «إراءة الدقائق» .
١٠- حاشية الشيخ الفاضل جمال الدين إسحاق القراماني المتوفى سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة (ت ٩٣٣ هـ) وهي حاشية مفيدة جامعة.
١١- حاشية العالم المشهور بروشني الآيديني.
١٢- حاشية الشيخ محمود بن الحسين الأفضلي الحاذقي الشهير بالصادقي الكيلاني المتوفى في حدود سنة سبعين وتسعمائة (ت ٩٧٠ هـ) .
وهي من سورة الأعراف إلى آخر القرآن سماها «هداية الرواة إلى الفاروق المداوي للعجز عن تفسير البيضاوي» وفرغ من تحريرها سنة ثلاث وخمسين تسعمائة.
١٣- حاشية الشيخ بابا نعمة الله بن محمد النخجواني المتوفى في حدود سنة تسعمائة (ت ٩٠٠ هـ) .
١٤- حاشية العالم مصطفى بن شعبان الشهير بالسروري المتوفى سنة تسع وستين وتسعمائة (ت ٩٦٩ هـ) .
وهي كبرى وصغرى، أول الكبرى الحمد لله الذي جعلني كشاف القرآن، ذكر العاشق في ذيل الشقائق أنه كان يكتب كل ما يخطر بالبال في بادي النظر والمطالعة ولا ينظر إليه بعد ذلك.
١٥- وحاشية المولى الشهير بمنا وعوض المتوفى سنة أربع وتسعين وتسعمائة (ت ٩٩٤ هـ) .
وهو في نحو ثلاثين مجلدا.
١٦- وحاشية الشيخ أبي بكر بن أحمد بن الصائغ الحنبلي المتوفى سنة أربع عشرة وسبعمائة (ت ٧١٤ هـ) .
وسماه «الحسام الماضي في إيضاح غريب القاضي» شرح فيه غريبه، وضم إليه فوائد كثيرة.
وأما التعليقات والحواشي الغير التامة فكثيرة جدا:
فنذكر منها ما وصل إلينا خبره، ونقدم الأشهر فالأشهر فمنها:
١٧- حاشية المولى المحقق محمد بن فرامرز الشهير بملا خسرو المتوفى سنة خمس وثمانين وثمانمائة (ت ٨٨٥) هـ.
وهي من أحسن التعليقات عليه بل أرجحها إلى قوله ﷾: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ وذيلها إلى تمام سورة البقرة لمحمد بن عبد الملك البغدادي (الحنفي المتوفى بدمشق سنة ١٠١٦ ذكره «خلاصة الأثر») ألّفه سنة اثنتي عشرة وألّف، أوله الحمد لله هادي المتقين.
١٨- وحاشية العالم الفاضل نور الدين حمزة «بن محمود» القراماني المتوفى سنة إحدى وسبعين وثمانمائة (ت ٨٧١ هـ) .
وهي على الزهراوين سماها «تقشير التفسير» .
1 / 17
١٩- وتعليقة سنان الدين يوسف البردعي الشهير بعجم سنان المحشي لشرح الفرائض.
كتبها إلى قوله ﷾: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ وهي كالخسروية حجما عبر فيها عن ملا حمزة بالأستاذ الأوسط وعن ملا خسرو بالأستاذ الأخير، أوله الحمد لله الذي نور قلوبنا.
٢٠- وحاشية الفاضل المحقق عصام الدين إبراهيم بن محمد بن عربشاه الإسفرايني المتوفى سنة ثلاث وأربعين وتسعمائة (ت ٩٤٣ هـ) .
وهي مشحونة بالتصرفات اللائقة والتحقيقات الفائقة من أول القرآن إلى آخر الأعراف ومن أول سورة النبأ إلى آخر القرآن، أهداها إلى السلطان سليمان خان أوله: الحمد لله الذي عم بارفاد إرشاد الفرقان.
٢١- وحاشية المولى العلامة سعد الله بن عيسى الشهير بسعدي أفندي المتوفى سنة خمس وأربعين وتسعمائة (ت ٩٤٥ هـ) .
وهي من أول سورة هود إلى آخر القرآن.
وأما التي وقعت على الأوائل فجمعها ولده پير محمد من الهوامش فألحقها إلى ما علقه، وفيها تحقيقات لطيفة ومباحث شريفة لخصها من حواشي «الكشاف» وضم إليها ما عنده من تصرفاته المسلمة فوقع اعتماد المدرسين عليها ورجوعهم عند البحث والمذاكرة إليها، وقد علقوا عليها رسائل لا تحصى.
٢٢- وحاشية الفاضل سنان الدين يوسف بن حسام المتوفى سنة ست وثمانين وتسعمائة (ت ٩٨٦ هـ) .
وهي أيضا حاشية مقبولة من أول الأنعام إلى آخر الكهف، وعلق على سورة الملك والمدثر والقمر وألحقها وأهداها إلى السلطان السليم خان الثاني.
٢٣- وحاشية المولى محمد بن عبد الوهاب الشهير بعبد الكريم زاده المتوفى سنة خمس وسبعين وتسعمائة (ت ٩٧٥ هـ) .
وهي من أول القرآن إلى سورة طه ولم تنتشر.
٢٤- وتعليقة المولى مصطفى بن محمد الشهير ببستان أفندي المتوفى سنة سبع وسبعين وتسعمائة (ت ٩٧٧ هـ) .
وهي على سورة الأنعام خاصة.
٢٥- وتعليقة محمد بن مصطفى بن الحاج حسن المتوفى سنة إحدى عشرة وتسعمائة (ت ٩١١ هـ) .
وهي أيضا على سورة الأنعام.
٢٦- وتعليقة العالم الفاضل مصلح الدين محمد اللاري المتوفى سنة سبع وسبعين وتسعمائة (ت ٩٧٧ هـ) .
وهي إلى آخر الزهراوين مشحونة بالمباحث الدقيقة.
٢٧- وتعليقة نصر الله الرومي.
وفي «أعلام» الزركلي (٨/ ٣١): نصر الله بن محمد العجمي الخلخالي الشافعي (ت ٩٦٢ هـ) له «حاشية على أنوار التنزيل» للبيضاوي.
٢٨- وتعليقة الشيخ الأديب غرس الدين الحلبي الطبيب.
٢٩- وتعليقة المحقق الملا حسين (حسن) الخلخالي الحسيني (ت ١٠١٤ هـ) .
من سور يس إلى آخر القرآن، أولها: الحمد لله الذي توله العرفاء في كبرياء ذاته.
1 / 18
٣٠- وتعليقة محيي الدين محمد الإسكليبي المتوفى سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة (ت ٩٢٢ هـ) .
٣١- وتعليقة محيي الدين محمد بن القاسم الشهير بالأخوين المتوفى سنة أربع وتسعمائة (ت ٩٠٤ هـ) .
وهي على الزهراوين.
٣٢- وتعليقة السيد أحمد بن عبد الله القريمي المتوفى سنة خمسين وثمانمائة (٨٥٠) .
وهي إلى قريب من تمامه.
٣٣- وتعليقة الفاضل محمد بن كمال الدين التاشكندي.
على سورة الأنعام أهداها إلى السلطان سليم خان.
٣٤- وتعليقة المولى زكريا بن بيرام الأنقروي المتوفى سنة إحدى وألف (ت ١٠٠١ هـ) .
وهي على سورة الأعراف.
٣٥- وتعليقة المولى محمد بن عبد الغني المتوفى سنة ست وثلاثين وألف (ت ١٠٣٦ هـ) .
إلى نصف البقرة في نحو خمسين جزءا.
٣٦- وتعليقة الفاضل محمد أمين الشهير بابن صدر الدين الشرواني المتوفى سنة عشرين وألف (ت ١٠٢٠ هـ) .
وهي إلى قوله تعالى: الم ذلِكَ الْكِتابُ أورد عبارة البيضاوي تماما بقوله وبدأ بما بدأ في الصفدي في «شرح لامية العجم» وهو قوله: الحمد لله الذي شرح صدر من تأدب.
٣٧- وتعليقة المولى هداية الله العلائي المتوفى سنة تسع وثلاثين وألف (ت ١٠٣٩ هـ) .
٣٨- وتعليقة الفاضل محمد الشرانشي.
وهي على جزء النبأ.
٣٩- وتعليقة الفاضل محمد أمين بن محمود الشهير بأمير بادشاه البخاري الحسيني نزيل مكة المتوفى سنة (٩٧٢ هـ) .
وهي إلى سورة الأنعام.
٤٠- وتعليقة الفاضل محمد بن موسى البسنوي المتوفى سنة ست وأربعين وألف (ت ١٠٤٦ هـ) .
وهي إلى آخر سورة الأنعام كتبها على طريق الإيجاز، بل على سبيل التعمية والألغاز، أولها: الحمد لله الذي فضل بضله العالمين على الجاهلين.
٤١- وتعليقة الفاضل المشهور بالعلائي ابن محبّي الشيرازي «علاء الدين علي بن محيي الدين محمد المتوفى سنة (٩٤٥) الشريف.
وهي على الزهراوين، أولها: الحمد لِلَّهِ الذى أَنْزَلَ على عبده الكتاب، فرغ عنها في رجب سنة خمس وأربعين وتسعمائة وسماها «مصباح التعديل في كشف أنوار التنزيل» .
٤٢- وتعليقة المولى أحمد بن روح الله الأنصاري المتوفى سنة تسع وألف (ت ١٠٠٩ هـ) .
وهي إلى آخر الأعراف.
٤٣- وتعليقة محمد بن إبراهيم ابن الحنبلي الحلبي المتوفى سنة إحدى وسبعين وتسعمائة (ت ٩٧١ هـ) .
1 / 19
٤٤- وصنف الشيخ الإمام شمس الدين محمد بن يوسف بن علي بن يوسف (ت ٩٤٢ هـ) الشامي الشافعي مختصرا سماه «الإتحاف بتمييز ما تبع فيه البيضاوي صاحب الكشاف» .
أوله الحمد لله الهادي للصواب.
٤٥- والشيخ عبد الرؤوف المناوي خرج أحاديثه في كتاب أوله: الله أحمد أن جعلني من خدام أهل الكتاب، وسماه «الفتح السماوي بتخريج أحاديث البيضاوي» .
٤٦- وممن علق عليه كمال الدين محمد بن محمد بن أبي شريف القدسي المتوفى سنة ثلاث وتسعمائة (ت ٩٠٣ هـ) .
٤٧- والشيخ قاسم بن قطلوبغا الحنفي المتوفي سنة تسع وسبعين وثمانمائة (ت ٨٧٩ هـ) .
كتب إلى قوله ﷾ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ.
٤٨- والعلامة السيد الشريف علي بن محمد الجرجاني المتوفى سنة عشرة وثمانمائة (ت ٨١٦ هـ) .
ذكره السخاوي نقلا عن سبطه.
٤٩- ومن التعليقات عليه مع الكشاف وتفسير أبي السعود تعليقة الشيخ رضي الدين محمد بن يوسف الشهير بابن أبي اللطف القدسي (المتوفى سنة ١٠٢٨) .
وهي في مجلد ضخم أوله: الحمد لِلَّهِ الذى أَنْزَلَ على عبده الكتاب، علقها في درسه عند الصخرة إلى آخر الأنعام، فبيضها وأرسلها إلى المولى أسعد المفتي.
٥٠- و«مختصر تفسير البيضاوي» لمحمد بن محمد بن عبد الرحمن المعروف بإمام الكاملية الشافعي القاهري المتوفى سنة أربع وسبعين وثمانمائة (ت ٨٧٤ هـ) .
1 / 20
بسم الله الرحمن الرحيم وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ «قرآن كريم»
خطبة الكتاب
الحمد لله الذي نَزَّلَ الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، فتحدى بأقصر سورة من سورة مصاقع الخطباء من العرب العرباء فلم يجد به قديرا، وأفحم من تصدى لمعارضته من فصحاء عدنان وبلغاء قحطان حتى حسوا أنهم سحروا تسحيرا، ثم بين لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ حسبما عن لهم من مصالحهم ليدبروا آياته، وليتذكر أولو الألباب تذكيرا، فكشف لهم قناع الانغلاق عن آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات هن رموز الخطاب تأويلا وتفسيرا، وأبرز غوامض الحقائق ولطائف الدقائق، ليتجلى لهم خفايا الملك والملكوت وخبايا قدس الجبروت ليتفكروا فيها تفكيرا، ومهد لهم قواعد الأحكام وأوضاعها من نصوص الآيات وألماعها، ليذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا، فمن كان له قلب أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شهيد، فهو في الدارين حميد وسعيد، ومن لم يرفع إليه رأسه وأطفأ نبراسه، يعش ذميما ويصل سعيرا فيا واجب الوجود، ويا فائض الجود، ويا غاية كل مقصود، صل عليه صلاة توازي غناءه، وتجازي غناءه، وعلى من أعانه وقرر تبيانه تقريرا، وأفض علينا من بركاتهم واسلك بنا مسالك كراماتهم، وسلم عليهم وعلينا تسليما كثيرا.
وبعد، فإن أعظم العلوم مقدارا وأرفعها شرفا ومنارا، علم التفسير الذي هو رئيس العلوم الدينية ورأسها، ومبنى قواعد الشرع وأساسها، لا يليق لتعاطيه والتصدي للتكلم فيه إلا من برع في العلوم الدينية كلها أصولها وفروعها، وفاق في الصناعات العربية والفنون الأدبية بأنواعها.
ولطالما أحدث نفسي بأن أصنف في هذا الفن كتابا يحتوي على صفوة مما بلغني من عظماء الصحابة، وعلماء التابعين، ومن دونهم من السلف الصالحين، وينطوي على نكت بارعة، ولطائف رائعة، استنبطتها أنا ومن قبلي من أفاضل المتأخرين، وأماثل المحققين، ويعرب عن وجوه القراءات المشهورة المعزوّة إلى الأئمة الثمانية المشهورين، والشواذ المروية عن القراء المعتبرين.
إلا أن قصور بضاعتي يثبطني عن الإقدام، ويمنعني عن الانتصاب في هذا المقام حتى سنح لي بعد الاستخارة ما صمم به عزمي على الشروع فيما أردته، والإتيان بما قصدته، ناويا أن أسميه بعد أن أتممه «بأنوار التنزيل وأسرار التأويل» .
فها أنا الآن أشرع وبحسن توفيقه، أقول وهو الموفق لكل خير ومعطي كل مسؤول.
1 / 23
(١) سورة الفاتحة
مكية وآيها سبع آيات بسم الله الرحمن الرحيم وتسمى أم القرآن، لأنها مفتتحة ومبدؤه فكأنها أصله ومنشؤه، ولذلك تسمى أساسا. أو لأنها تشتمل على ما فيه من الثناء على الله ﷾، والتعبد بأمره ونهيه وبيان وعده ووعيده. أو على جملة معانيه من الحكم النظرية، والأحكام العملية التي هي سلوك الطريق المستقيم والاطلاع على مراتب السعداء ومنازل الأشقياء. وسورة الكنز والوافية والكافية لذلك. وسورة الحمد والشكر والدعاء. وتعليم المسألة لاشتمالها عليها والصلاة لوجوب قراءتها أو استحبابها فيها. والشافية والشفاء
لقوله ﵊: «هي شفاء من كل داء»
. و«السبع المثاني» لأنها سبع آيات بالاتفاق، إلا أن منهم من عد التسمية دون أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، ومنهم من عكس، وتثنى في الصلاة، أو الإنزال إن صح أنها نزلت بمكة حين فرضت الصلاة، وبالمدينة حين حولت القبلة، وقد صح أنها مكية لقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثانِي، وهو مكي بالنص.
[سورة الفاتحة (١): آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ من الفاتحة، ومن كل سورة، وعليه قراءة مكة والكوفة وفقهاؤهما وابن المبارك رحمه الله تعالى والشافعي. وخالفهم قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها ومالك والأوزاعي، ولم ينص أبو حنيفة رحمه الله تعالى فيه بشيء فظن أنها ليست من السورة عنده.
وسئل محمد بن الحسن عنها فقال: ما بين الدفتين كلام الله تعالى
. ولنا أحاديث كثيرة: منها
ما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، أنه ﵊ قال: «فاتحة الكتاب سبع آيات، أولاهن بسم الله الرحمن الرحيم» .
وقول أم سلمة ﵂ «قرأ رسول الله ﷺ الفاتحة وعد «بسم الله الرحمن الرحيم الحمد للَّهِ رَبّ العالمين» آية
ومن أجلهما اختلف في أنها آية برأسها أم بما بعدها، والإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله ﷾، والوفاق على إثباتها في المصاحف مع المبالغة في تجريد القرآن حتى لم تكتب آمين. والباء متعلقة بمحذوف تقديره:
بسم الله أقرأ لأن الذي يتلوه مقروء. وكذلك يضمر كل فاعل ما يجعل التسمية مبدأ له، وذلك أولى من أن يضمر أبدأ لعدم ما يطابقه ويدل عليه. أو ابتدائي لزيادة إضمار فيه، وتقديم المعمول هاهنا أوقع كما في قوله:
بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ لأنه أهم وأدل على الاختصاص، وأدخل في التعظيم وأوفق للوجود فإن اسمه ﷾ مقدم على القراءة، كيف لا وقد جعل آلة لها من حيث إن الفعل لا يتم ولا يعتد به شرعًا ما لم يصدر باسمه تعالى
لقوله ﵊ «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر»
، وقيل الباء للمصاحبة، والمعنى متبركًا باسم الله تعالى اقرأ، وهذا وما بعده إلى آخر السورة مقول على ألسنة العباد ليعلموا كيف يتبرك باسمه، ويحمد على نعمه، ويُسأل من فضله، وإنما كسرت ومن حق الحروف المفردة أن تفتح، لاختصاصها باللزوم الحرفية والجر، كما كسرت لام الأمر ولام الإضافة داخلة على المظهر للفصل بينهما وبين لام الابتداء، والاسم عند أصحابنا البصريين من الأسماء التي حذفت أعجازها لكثرة الاستعمال، وبنيت أوائلها على السكون، وأدخل عليها مبتدأ بها همزة الوصل، لأن من دأبهم أن يبتدئوا
1 / 25
بالمتحرك ويقفوا على الساكن. ويشهد له تصريفه على أسماء وأسامي وسمى وسميت ومجيء سمي كهدى لغة فيه قال:
والله أسماك سمىً مُباركًا ... آثرك الله بهِ إيَثَاركا
والقلب بعيد غير مطرد، واشتقاقه من السمو لأنه رفعة للمسمى وشعار له. ومن السمة عند الكوفيين، وأصله وسم حذفت الواو وعوضت عنها همزة الوصل ليقل إعلاله. ورد بأن الهمزة لم تعهد داخلة على ما حذف صدره في كلامهم، ومن لغاته سم وسم قال:
بِسْمِ الذي في كُلِّ سُورةٍ سِمُهْ والاسم إن أريد به اللفظ فغير المسمى، لأنه يتألف من أصوات متقطعة غير قارة، ويختلف باختلاف الأمم والأعصار، ويتعدد تارة ويتحد أخرى. والمسمى لا يكون كذلك، وإن أريد به ذات الشيء فهو المسمى لكنه لم يشتهر بهذا المعنى وقوله تعالى: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ وسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ المراد به اللفظ لأنه كما يجب تنزيه ذاته ﷾ وصفاته عن النقائص، يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن الرفث وسوء الأدب. أو الاسم فيه مقحم كما في قول الشاعر:
إلى الحولِ ثُم اسمُ السلامِ عليكُما وإن أريد به الصفة، كما هو رأي الشيخ أبي الحسن الأشعري، انقسم انقسام الصفة عنده: إلى ما هو نفس المسمى، وإلى ما هو غيره، وإلى ما ليس هو ولا غيره. وإنما قال بسم الله ولم يقل بالله، لأن التبرك والاستعانة بذكر اسمه. أو للفرق بين اليمين والتيمن. ولم تكتب الألف على ما هو وضع الخط لكثرة الاستعمال وطولت الباء عوضًا عنها. والله أصله إله، فحذفت الهمزة وعوض عنها الألف واللام ولذلك قيل:
يا الله، بالقطع إلا أنه مختص بالمعبود بالحق. والإله في الأصل لكل معبود، ثم غلب على المعبود بالحق.
واشتقاقه من أله ألهة وألوهة وألوهية بمعنى عبد، ومنه تأله واستأله، وقيل من أله إذا تحير لأن العقول تتحير في معرفته. أو من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه، لأن القلوب تطمئن بذكره، والأرواح تسكن إلى معرفته.
أو من أله إذا فزع من أمر نزل عليه، وآلهة غيره أجاره إذ العائذ يفزع إليه وهو يجيره حقيقة أو بزعمه. أو من أله الفصيل إذا ولع بأمه، إذ العباد يولعون بالتضرع إليه في الشدائد. أو من وله إذا تحير وتخبط عقله، وكان أصله ولاه فقلبت الواو همزة لاستثقال الكسرة عليها استثقال الضمة في وجوه، فقيل إله كإعاء وإشاح، ويرده الجمع على آلهة دون أولهة. وقيل أصله لاه مصدر لاه يليه ليها ولاها، إذا احتجب وارتفع لأنه ﷾ محجوب عن إدراك الأبصار، ومرتفع على كل شيء وعما لا يليق به ويشهد له قول الشاعر:
كحِلفةٍ من أبي رباحٍ ... يُشهِدْهَا لاهَهْ الكِبَارُ
وقيل علم لذاته المخصوصة لأنه يوصف ولا يوصف به، ولأنه لا بد له من اسم تجري عليه صفاته ولا يصلح له مما يطلق عليه سواه، ولأنه لو كان وصفًا لم يكن قول: لا إله إلا الله، توحيدًا مثل: لا إله إلا الرحمن، فإنه لا يمنع الشركة، والأظهر أنه وصف في أصله لكنه لما غلب عليه بحيث لا يستعمل في غيره وصار له كالعلم مثل: الثريا والصعق أجرى مجراه في إجراء الأوصاف عليه، وامتناع الوصف به، وعدم تطرق احتمال الشركة إليه، لأن ذاته من حيث هو بلا اعتبار أمر آخر حقيقي أو غيره غير معقول للبشر، فلا يمكن أن يدل عليه بلفظ، ولأنه لو دل على مجرد ذاته المخصوصة لما أفاد ظاهر قوله ﷾: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ معنى صحيحًا، ولأن معنى الاشتقاق هو كون أحد اللفظين مشاركًا للآخر في المعنى والتركيب، وهو حاصل بينه وبين الأصول المذكورة، وقيل أصله لاها بالسريانية فعرب بحذف الألف الأخيرة، وإدخال اللام عليه، وتفخيم لامه إذا انفتح ما قبله أو انضم سنة، وقيل مطلقًا، وحذف ألفه لحن تفسد به
1 / 26
الصلاة، ولا ينعقد به صريح اليمين، وقد جاء لضرورة الشعر:
ألاَ لا باركَ الله في سُهيلٍ ... إذا ما الله باركَ في الرّجال
والرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اسمان بنيا للمبالغة من رحم، كالغضبان من غضب، والعليم من علم، والرحمة في اللغة: رقة القلب، وانعطاف يقتضي التفضل والإحسان، ومنه الرَّحِم لانعطافها على ما فيها. وأسماء الله تعالى إنما تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادي التي تكون انفعالات. والرَّحْمنِ أبلغ من الرَّحِيمِ، لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى كما في قَطَّعَ وقَطَعَ وكَبَّار وكِبَار، وذلك إنما يؤخذ تارة باعتبار الكمية، وأخرى باعتبار الكيفية، فعلى الأول قيل: يا رحمن الدنيا لأنه يعم المؤمن والكافر، ورحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن، وعلى الثاني قيل: يا رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا، لأن النعم الأخروية كلها جسام، وأما النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة، وإنما قدم والقياس يقتضي الترقي من الأدنى إلى الأعلى، لتقدم رحمة الدنيا، ولأنه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها، وذلك لا يصدق على غيره لأن من عداه فهو مستعيض بلطفه وإنعامه يريد به جزيل ثواب أو جميل ثناء أو مزيج رقة الجنسية أو حب المال عن القلب، ثم إنه كالواسطة في ذلك لأن ذات النعم ووجودها، والقدرة على إيصالها، والداعية الباعثة عليه، والتمكن من الانتفاع بها، والقوى التي بها يحصل الانتفاع، إلى غير ذلك من خلقه لا يقدر عليها أحد غيره. أو لأن الرحمن لما دل على جلائل النعم وأصولها ذكر الرحيم ليتناول ما خرج منها، فيكون كالتتمة والرديف له. أو للمحافظة على رؤوس الآي.
والأظهر أنه غير مصروف وإن حظر اختصاصه بالله تعالى أن يكون له مؤنث على فعلى أو فعلانة إلحاقًا له بما هو الغالب في بابه. وإنما خص التسمية بهذه الأسماء ليعلم العارف أن المستحق لأن يستعان به في مجامع الأمور، هو المعبود الحقيقي الذي هو مولى النعم كلها عاجلها وآجلها، جليلها وحقيرها، فيتوجه بشَرَاشِرِهِ إلى جناب القدس، ويتمسك بحبل التوفيق، ويشغل سره بذكره والاستعداد به عن غيره.
[سورة الفاتحة (١): آية ٢]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الحمد: هو الثناء على الجميل الاختياري من نعمة أو غيرها، والمدح: هو الثناء على الجميل مطلقًا. تقول حمدت زيدًا على علمه وكرمه، ولا تقول حمدته على حسنه، بل مدحته. وقيل هما أخوان. والشكر: مقابلة النعمة قولًا وعملًا واعتقادًا قال:
أفادَتْكُمُ النُعْمَاءُ مني ثلاثَةً ... يَدي ولساني والضَّميرَ المُحجَّبا
فهو أعم منهما من وجه، وأخص من آخر ولما كان الحمد من شعب الشكر أشيع للنعمة، وأدل على مكانها لخفاء الاعتقاد، وما في آداب الجوارح من الاحتمال جعل رأس الشكر والعمدة فيه
فقال ﵊: «الحمد رأس الشكر، وما شكر الله من لم يحمده» .
والذم نقيض الحمد والكفران نقيض الشكر. ورفعه بالابتداء وخبره لله وأصله النصب وقد قرئ به، وإنما عدل عنه إلى الرفع ليدل على عموم الحمد وثباته له دون تجدده وحدوثه. وهو من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة لا تكاد تستعمل معها، والتعريف فيه للجنس ومعناه: الإشارة إلى ما يعرف كل أحد أن الحمد ما هو؟ أو للاستغراق، إذ الحمد في الحقيقة كله له، إذ ما من خير إلا وهو موليه بوسط أو بغير وسط كما قال تعالى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وفيه إشعار بأنه تعالى حي قادر مريد عالم. إذ الحمد لا يستحقه إلا من كان هذا شأنه. وقرئ الحمد لله بإتباع الدال اللام وبالعكس تنزيلًا لهما من حيث إنهما يستعملان معًا منزلة كلمة واحدة.
1 / 27
رَبِّ الْعالَمِينَ الرب في الأصل مصدر بمعنى التربية: وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئًا فشيئًا، ثم وصف به للمبالغة كالصوم والعدل. وقيل: هو نعت من رَبِّه يربه فهو رب، كقولك نم ينم فهو نم، ثم سمى به المالك لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه. ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيدًا كقوله: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ والعالم اسم لما يعلم به، كالخاتم والقالب، غلب فيما يعلم به الصانع تعالى، وهو كل ما سواه من الجواهر والأعراض، فإنها لإمكانها وافتقارها إلى مؤثر واجب لذاته تدل على وجوده، وإنما جمعه ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة، وغلب العقلاء منهم فجمعه بالياء والنون كسائر أوصافهم. وقيل: اسم وضع لذوي العلم من الملائكة والثقلين، وتناوله لغيرهم على سبيل الاستتباع. وقيل: عني به الناس هاهنا فإن كل واحد منهم عالم من حيث إنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض يُعْلَمُ بها الصانع كما يعلم بما أبدعه في العالم الكبير، ولذلك سوى بين النظر فيهما، وقال تعالى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ، أَفَلا تُبْصِرُونَ. وقرئ رَبِّ الْعالَمِينَ بالنصب على المدح. أو النداء. أو بالفعل الذي دل عليه الحمد، وفيه دليل على أن الممكنات كما هي مفتقرة إلى المحدث حال حدوثها فهي مفتقرة إلى المبقي حال بقائها.
[سورة الفاتحة (١): الآيات ٣ الى ٤]
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤)
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كرره للتعليل على ما سنذكره.
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قراءة عاصم والكسائي ويعقوب ويعضده قوله تعالى: يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ. وقرأ الباقون: مَلِكِ. وهو المختار لأنه قراءة أهل الحرمين ولقوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟. ولما فيه من التعظيم. والمالك هو المتصرف في الأعيان المملوكة كيف يشاء من الملك. والملك هو المتصرف بالأمر والنهي في المأمورين من الملك. وقرئ ملك بالتخفيف وملك بلفظ الفعل. ومالكا بالنصب على المدح أو الحال، ومالك بالرفع منونًا ومضافًا على أنه خبر مبتدأ محذوف، وملك مضافًا بالرفع والنصب. ويوم الدين يوم الجزاء ومنه «كما تدين تدان» وبيت الحماسة:
ولم يَبْقَ سِوَى العدوا ... نِ دِناهُمْ كما دَانُوا
أضاف اسم الفاعل إلى الظرف إجراء له مجرى المفعول به على الاتساع كقولهم: يَا سَارِقَ اللْيلَةَ أَهْلَ الدار، ومعناه، ملك الأمور يوم الدين على طريقة وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ. أوله الملك في هذا اليوم، على وجه الاستمرار لتكون الإضافة حقيقية معدة لوقوعه صفة للمعرفة، وقيل: الدِّينِ الشريعة، وقيل: الطاعة.
والمعنى يوم جزاء الدين، وتخصيص اليوم بالإضافة: إما لتعظيمه، أو لتفرده تعالى بنفوذ الأمر فيه، وإجراء هذه الأوصاف على الله تعالى من كونه موجدًا للعالمين ربًا لهم منعمًا عليهم بالنعم كلها ظاهرها وباطنها عاجلها وآجلها، مالكًا لأمورهم يوم الثواب والعقاب، للدلالة على أنه الحقيق بالحمد لا أحد أحق به منه بل لا يستحقه على الحقيقة سواه، فإن ترتب الحكم على الوصف يشعر بعليته له، وللإشعار من طريق المفهوم على أن من لم يتصف بتلك الصفات لا يستأهل لأن يحمد فضلًا عن أن يعبد، فيكون دليلًا على ما بعده، فالوصف الأول لبيان ما هو الموجب للحمد، وهو الإيجاد والتربية. والثاني والثالث للدلالة على أنه متفضل بذلك مختار فيه، ليس يصدر منه لإيجاب بالذات أو وجوب عليه قضية لسوابق الأعمال حتى يستحق به الحمد. والرابع لتحقيق الاختصاص فإنه مما لا يقبل الشركة فيه بوجه ما، وتضمين الوعد للحامدين والوعيد للمعرضين.
[سورة الفاتحة (١): آية ٥]
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد، ووصف بصفات عظام تميز بها عن سائر
1 / 28