مقدمة
لا ريب أن فرجيل كان سيد شعراء عصره ممن تبوءوا مكان الصدارة عن استحقاق وجدارة، وممن أسعدهم الحظ فتمتعوا بصيت عريض إبان حياتهم؛ فالمرء حين يقرأ شعره ينسى الحياة ومتاعبها؛ إذ إن منظوماته تفرض عليك لونا من التفكير لا عهد لك به، ولكن ما أجمله من تفكير! وما أروعه من إلهام! إنه إبداع وابتكار، مزيج من الواقع المرير وذلك الخيال العميق الذي يحلق بالإدراك الإنساني فوق كل شيء وكأنه في زورة للملكوت أو العالم المجهول.
وشعر فرجيل آيات بينات تمتاز بالكمال والعذوبة والقوة والمرونة وتتناول كل ما يتعلق بروما من وصف رائع خالد لحقولها الفسيحة ورياضها الجميلة وبساتينها المزهرة وطرقاتها الطويلة المتشعبة، وما يدين به شعبها من معتقدات وطقوس وما يحتفل به من أعياد ومناسبات وما يقاسيه من ألوان المشاعر والآلام والأحداث. ففرجيل من هذه الناحية يسلب فؤادك ويبهر أنفاسك ويولد فيك الإحساس بعظمته كشاعر جبار أنجبته البشرية، فلتة من فلتات الطبيعة المقدسة ويجبرك على تقديره والإعجاب به والاستحسان بنقاء فكره وصفاء ذهنه وقوة إلهامه، بل ويدفعك دفعا إلى المناداة به أمير الشعراء وكبير العلماء وسيد العارفين ونبي الملهمين.
وفرجيل - قبل أن يكون شاعرا ملهما - فلاح، ابن فلاح مزارع، نشأ في الحقل وترعرع في كنفه، فكبر وحب الزراعة يسري في جسده مسرى الدماء في عروقه وشرايينه ... فتنته الطبيعة بجمالها وأعجبه سيطرتها على الزراعة والفلاحة فعكف على دراستها دراسة الهاوي المفتون حتى حاز قصب السبق في معرفة تفاصيلها والإلمام بمعمياتها ... ومن ثم أخذ يعالج الزراعة علاج المزارع المحنك الماهر ولكنه عالجها في الوقت نفسه علاج الشاعر الفنان، فكانت منظوماته الزراعية أول ما كتب باللاتينية في هذا الصدد وأروع ما ابتدعته الروح الفنانة وأكثر ما خطه بنان شاعر حماسة وطلاوة وجاذبية ...
وكما أحب فرجيل الزراعة وحقولها أحب الرعي والرعاة ... وهناك وسط المروج المترامية الأطراف وعند سفوح الجبال الشامخة والتلال المتواضعة نسي فرجيل نفسه وتركها على سجيتها وأرخى لخياله العنان؛ ليسبح تارة في الفضاء اللانهائي ويطوف طورا وسط الرياض الخضراء ويمشي حينا في ركاب قطعان الماعز والخراف الساذجة؛ وليخلق لنا أناشيده العشر التي اكتفينا بنشر ترجمتها في هذا الكتاب تاركين الحكم عليها للقراء الكرام.
ويلاحظ القارئ أنها المرة الأولى في كتبنا التي يرد فيها المتن اللاتيني بجانب الترجمة العربية، ولا نحبه أن يسخط علينا أو يسخر من محاولتنا، فهي وإن كانت المحاولة الأولى تقريبا في دنيا الأدب العربي فهي بالنسبة إلى الأمم الغربية سنة جرت عليها حين تقدم على ترجمة هذه اللغات القديمة، ولا أدل على ذلك مما أقدم عليه ذلك الثري البريطاني جيمس لويب
James Loeb
الذي أوصى بأن توقف ثروته بعد وفاته لنشر مجموعة من الكتب بها المتون اللاتينية واليونانية - بعد ضبطها - وتراجم دقيقة لها، ولقد صدر منها إلى الآن، وما زال يصدر، مئات المجلدات. وهذه المجموعة تحظى بشهرة عالمية منقطعة النظير؛ لذلك نرجو من القارئ أن يعتبر هذه المحاولة خطوة صغيرة إلى الأمام؛ لنقف على قدم المساواة مع هذه البلاد التي بلغت في العلم والبحث شأوا كبيرا يحسدان عليه.
ومما شجعنا على هذه المحاولة أيضا أن نشر المتن اللاتيني فضلا عن فائدته الكبيرة للباحث والدارس والهاوي لا يمنع القارئ العادي من الاستمتاع بقراءة الترجمة العربية كأن الكتاب لا يضم غيرها بين دفتيه.
ولقد آثرنا أن نلحق بالكتاب ملخصا لأناشيد الشاعر لنبين ما تضمنته من أفكار فنقضي على كل التباس يشوبها؛ فنكون بذلك قد حققنا الغرض من ترجمتها ونشرها.
Halaman tidak diketahui