70

وكان أبو حنيفة كما قيل يبسط رجله في حلقة الدروس؛ لأنه لم يكن يستطيع أن يثنيها من مرض أو من إعياء ... فأقبل على درسه ذات يوم شيخ غزير اللحية، وقور المشية، هابه أبو حنيفة فثنى رجله على ألم، ثم أخذ في درسه عن موعد صلاة الصبح، فإذا بالشيخ يسأل: «وما العمل إذا طلعت الشمس قبل الفجر؟» قال أبو حنيفة: «العمل أن أبا حنيفة يبسط رجله ويحمد الله!»

وقد بسطت رجلي وحمدت الله من ذلك الحين، وعلمت أن خطأ الكثيرين جائز، وأن سخريتهم لا تضير، فلم أحفل بتلك السخرية، ولعلي بالغت في قلة الاحتفال بها «وأخذت راحتي» جدا في بسط رجلي حيث أشاء.

لقد علمتني تجارب الحياة أن الناس تغيظهم المزايا التي ننفرد بها، ولا تغيظهم النقائص التي تعيبنا، وأنهم يكرهون منك ما يصغرهم لا ما يصغرك، وقد يرضيهم النقص الذي فيك؛ لأنه يكبرهم في رأي أنفسهم، ولكنهم يسخطون على مزاياك؛ لأنها تصغرهم أو تغطي على مزاياهم ... فبعض الذم على هذا خير من بعض الثناء، لا بل الذم من هذا القبيل أخلص من كل ثناء؛ لأن الثناء قد يخالطه الرياء. أما هذا الذم فهو ثناء يقتحم الرياء.

وود أبو حنيفة لو يصل رجله برجل أخرى ليبسطها كل البسط في وجه كل مذمة من هذا الطراز.

وعرفت أن الذين أسخطهم لا يرضيهم عني شيء، وأن الذين أرضيهم لا يسخطهم علي شيء، فلا فائدة إذن من اتقاء السخط ولا من اجتلاب الرضى؛ لأن الذين يسخطون علي يرجعون إلى خلائقهم التي لا تتغير، والذين يرضون عني يعرفونني من عملي الذي يرتضونه، ولا يريدون مني شيئا سواه.

وأعجب ما عرفته من أمر نفسي أنني أسيء الظن بالناس؛ لأنني أحسن الظن بهم ...

فأول ما يخطر لي على بال أن أتهم من يقترف عملا من الأعمال المنكرة بسوء النية وتعمد الإساءة؛ لأنني لا أحسب أن إنسانا عاقلا يقع في خطأ جسيم عفوا أو جهلا بالفرق بين الحسن والقبيح ...

فإذا ظلمته فقد يشفع لي أنني أظلمه في سبيل الإنصاف ...! •••

وعرفت أنني من أعجز الناس عن رفع حاجز واحد يقام بيني وبين إنسان، ولا سيما حاجز الكلفة والإعراض، فإذا تلقاني إنسان بمثل هذا الحاجز فلا اقتراب بيني وبينه أبد الدهر، وليس أشق على نفسي من تلك الزلفى التي يزدلف بها بعضهم لكسب صداقة أو تمكين علاقة ... فإن زال الحاجز وحده فهنالك يمتزج العقل بالعقل، والنفس بالنفس - طواعية وعفوا - كأننا في عشرة حميمة منذ سنتين .

وعرفت أنني أكره الهزيمة في كل مجال، ولكن يشهد الله إنني أعاف النصر إذا رأيت أمامي ذل المنهزم وانكسار المستسلم، ولولا أن هزيمتي أبغض إلي من هزيمة خصمي لأبغضت النصر الذي يفضي لا محالة إلى انهزام واستسلام ...

Halaman tidak diketahui