لم يقع بصري بعد ذلك اليوم على حمادة الأصفر كأنه اختفى من المدينة، ولم أعثر عليه مع محاولاتي الكثيرة في البحث عنه في القهاوي والأزقة المظلمة، ولم أجرؤ على أن أذهب وحدي إلى الأسواق، فإني كنت أشعر أني لن أستطيع شيئا إلا إذا كان حمادة معي؛ فهو الذي يختار المكان الذي نذهب إليه، وهو الذي يفرز الأقطان ويقدر أثمانها في خبرة ومهارة لم تخطئ في مرة من المرات، ولكني مع هذا لم أكن قلقا؛ لأن صفقة الشرنوبي كانت تعادل عشر صفقات متفرقة مما اعتدت أن أعقدها في أسواق القرى.
وكانت القراءة تشغل جانبا كبيرا من أوقاتي، وكتبت بضع مقالات لجريدة النبراس؛ لأن صاحبها زارني وطلب مني المساعدة على خدمة المدينة في أيام الانتخابات، ولكني مع هذا كنت أحيانا أحس ضيقا يقرب بي من الثورة على نفسي وعلى القيود الكثيرة التي تقيدني، والسدود المنيعة التي تعترض سبيلي، فماذا صنعت بهذه الشهادة التي أشقيت نفسي بالتفكير فيها؟ وماذا أستطيع أن أفعل في مساعدة أختي بعد أن نجحت في الدور الثاني؟ لا أستطيع أن أساعدها على الاستمرار في الدراسة، ولا تلوح لي بارقة أمل في أن أخرج من الدائرة المقدورة التي أحاطت بها الأقدار حياتي.
وأما التجارة فهبني استطعت أن أجمع في كل موسم بضع مئات من الجنيهات، فماذا تجدي علي هذه المئات؟ هل أجرؤ بها أن أذهب إلى السيد أحمد جلال قائلا: إني جئت إليك خاطبا؟
وجاء إلي حمادة في منزلي بعد انقطاع شهر كامل، وكان وجهه أشد صفرة مما كان، وعيناه ذابلتين، وصارت الزرقة التي حولهما إلى ما يقرب من السواد، ولم يبتسم عندما لقيني ولمحت على وجهه ما ينم عن الحزن والحنق.
وقلت له: أين كنت؟
فأجاب في صوت خافت: في داهية!
فقلت في اهتمام: ما الخبر؟
فقال حانقا: الخبر أني حمار لا يساوي ثمن طعامه، الخبر أني وغد، أتذكر عندما قلت لي هذه الكلمة ونحن صغار؟ ما أزال أذكرها إلى اليوم وأعيدها على نفسي كلما تبين لي أنني وغد حقا، اصفعني إذا شئت أو ابصق في وجهي أو اطردني من هنا، فإني أستحق كل هذا، اطردني يا أخي!
فضحكت قائلا: نؤجل هذا.
فقال حزينا: لست أمزح ولا أتفكه، بل إن قلبي يدمي ونفسي تتحرق، أنا حمار حقا؛ لأني ظننت أنها امرأة، وظننت أني إنسان يمكن أن تحبه امرأة.
Halaman tidak diketahui