وكان اليوم التالي سوق قرية الدلنجات، فعزمت على أن أقوم مبكرا لآخذ فطار الصباح، ولو على سبيل التجربة؛ لأرى شئون الأسواق، وأجس المخاضة قبل أن أنزل في الماء، وفي الصباح الباكر أخذت معي كل ما كان معي من النقود التي ادخرتها طوال السنوات الماضية لأبدأ حياتي كما بدأ السيد أحمد جلال حياته، وكان الظلام ما يزال حالكا تحت السماء القاتمة.
ولا يمكن أن أصف شعوري عندما شممت رائحة الهواء الرطب، وسرت في الطريق الصامتة عالما بأن الناس ما يزالون نياما في فراشهم، وكان المطر قد سقط في الليل غزيرا، وتجمعت منه بركة واسعة تملأ الطريق إلى المحطة، فخضت فيها؛ لأني لم أجد جانبا جافا من الطريق أسير فيه، وكان حذائي قديما له رقبة خففت البلل عن قدمي بعض الشيء، ولما قربت من ضريح سيدي «أبو طاقية» قرأت الفاتحة كما كنت أفعل منذ طفولتي عندما كنت تلميذا في المكتب المسمى باسمه.
ولم أقدر أن أصل إلى المحطة إلا بعد ربع ساعة مع أن المسافة لم تكن أكثر من ثلاثمائة متر، وكانت عربة الدرجة الثالثة مزدحمة ليس فيها موضع لقدم، فاضطررت إلى الجلوس على طرد في الممر بين المقاعد، وكان طرد قماش لأحد التجار الذاهبين إلى سوق الدلنجات.
وكنت لا أعرف من المسافرين إلا عددا قليلا أميزهم بوجوههم، ولكني دهشت عندما جاء حمادة الأصفر قبل قيام القطار بدقيقتين، فجاء يتخطى الطرود في الممر حتى جلس على طرد قريب مني وحياني قائلا: صباح الخير يا سيد أفندي.
ولم يخل جوابي من التعبير عما هجم علي من الضيق عند اقترابه مني، وكان في يده رغيف مقدد من أرغفة دمنهور المنفوخة وقد أكل أعلاه وبقي أسفله في يده مثل الطبق وبه قطعة جبن قديم أغبر اللون.
وقال لي وهو يمضغ: إلى أين العزم؟
فالتفت إليه في شيء من الرثاء والتقزز معا وقلت في احتقار: الدلنجات.
وبدا لي أن المسكين قد زاد تحولا واصفرارا، وكانت حول عينيه دائرتان خضراوان ووجهه المنقط بالنمش الأسود يشبه خرقة قذرة.
وقال في صوت خافت: إلى السوق؟
وهممت أن أصده بكلمة جافية ولكن منظره جعلني أمتلئ شفقة، وقلت له: نعم، وأنت؟
Halaman tidak diketahui