وكان بودي أن أسألها: هل كانت سعيدة؟ وهل قالت لها شيئا عن خطيبها؟ وهل سألتها عني؟ ولكني لم أجرؤ، وتركتها تسألني عن نيتي في الإقامة بالقاهرة، وهل أعتزم الإقامة وحدي أم ننتقل جميعا لنكون معا، وأخذت أجيبها إجابات مبهمة؛ لأني كنت في الحقيقة لا أدري بم أجيب.
وبلغنا المحطة فصافحتها بهزة من يدي وأخرى من قلبي، وسرت مسرعا والحقيبة الخفيفة تهتز في يدي، وخيل إلي أن منظر الميدان وما حوله من الأبنية أجمل المناظر، وأن نسيم الصباح الرطب أروح الأنسام، وعرجت على شباك التذاكر، فاشتريت تذكرة من الدرجة الثالثة ودفعت جنيها من الجنيهات العشرة التي أخذتها من أمي قبل خروجي، ثم سرت لأهبط إلى المحطة فسمعت صوتا من خلفي يصيح قائلا: «يا أفندي.» فالتفت إلى ورائي، وكان أحد الحمالين يناديني قائلا: «نسيت بقية الجنيه.» فعدت إلى شباك التذاكر واسترددت ما بقي لي، ثم اشتريت نسخة من «بريد الأحرار» من بائع الصحف وكان منظرها في عيني بديعا، وأخذت أتأمل عناوينها الكبرى باللون الأحمر واللون الأسود والصور الأنيقة التي تزين صفحاتها، وداخلني شعور بالاعتزاز بأنها جريدتي.
وجاء القطار وكان الزحام شديدا، فاستطعت بعد جهد أن أدخل العربة وأضع حقيبتي على طرف الرف، ووقفت على مقربة من الباب، وارتكنت على ظهر المقعد الذي ورائي، وأخذت أقلب صفحات الجريدة على مهلي.
ولكن الحقول الخضر كانت تنتزع نظري من الصحيفة، فلم أستطع أن أقرأ شيئا، كانت جوانب الطريق بساطا أخضر من القمح والبرسيم تزدهر بما فيها من النوار والبقر والغنم والأطفال في ملابسهم الملونة، ورأيت طفلا عاريا كما ولدته أمه يتمرغ في طين بركة، فلوحت له بيدي ورد علي التحية بأن قذفني بحفنة من الطين، وبصق في وجهي من بعيد، مسكين هو الآخر؛ لأنه لم يعرف للتحية ردا سوى هذا، وفيما كنت سابحا في أفكاري شعرت بيد تسحب الجريدة من تحت إبطي، فالتفت إلى الوراء لأرى رجلا ضخما في المقعد الذي ورائي يبتسم لي قائلا: «تسمح؟» ولم ينتظر حتى أسمح وأخذ الجريدة قبل أن أقول له: «تفضل.»
ولما وقف القطار في المحطة التالية خلا المقعد الذي إلى جنب الرجل، فدعاني للجلوس وبدأ يحدثني، فقال: إلى أين؟
فقلت مختصرا: إلى مصر. - أنت موظف؟
وتمنيت لو سكت ولكنه استمر قائلا: أنت أبونيه؟ - لا. - لا مؤاخذة، أظنني كنت مخطئا، هو يشبهك تماما. - من هو؟ - علي أفندي مبارك الأبونيه. اسم الكريم؟ - سيد زهير. - تشرفنا، كنت في يوم من سنتين - ولا مؤاخذة - كنت أركب هذا القطار نفسه، فركب علي أفندي الأبونيه من دمنهور، وكنت لا أعرفه، وتعارفنا كما نتعارف نحن الآن، ونصب علي في جنيهين.
ولم أجد جوابا فبقيت صامتا.
واستمر يقول: من ذلك اليوم صرت أتوقع أن أراه كلما مررت بمحطة دمنهور، ومن العجيب أن الجميع يشبهونه؛ ولهذا سألتك هل أنت أبونيه.
فانفجرت ضاحكا وقلت: أشكرك، على كل حال لست أنا.
Halaman tidak diketahui