ما في داعي لكل هذا، لولا أنه حريص على معرفة رأيك ما أرسلني إليك، وسأجد حلا معه أو أقنعه بتغيير التقرير.
ضرب مصر زلزال في الثاني عشر من أكتوبر اثنين وتسعين، خمسة وتسعة من عشرة بمقياس ريختر، توفي على أثره مئات الأشخاص والجرحى في القاهرة فانهارت عقارات. وتمت عملية قتل سائح بريطاني في ديروط على يد الجماعة الإسلامية في الحادي والعشرين من أكتوبر، بعدها بأيام في الثاني والعشرين من أكتوبر، تنحى د. «شوقي ضيف» من لجنة التقييم، وطلب إعفاءه لأن الإنتاج غزير ومتشعب، لا تسعفه عليه ظروفه الصحية، ووضع مكانه د. «عبد الصبور شاهين» في لجنة قراءة وتقييم أعمال «نصر أبو زيد». •••
أمام مبنى البنك الأهلي في جامعة القاهرة، التقيت وجها لوجه ب د. «عبد الصبور شاهين»، فحييته، وأظهر أنه لا يعرفني، فقدمت له نفسي، ودخلنا إلى البنك، وفي طريق خروجه نادى علي: «يا دكتور نصر، أنا عايزك لو سمحت في موضوع.» تركت مكاني في الصف وذهبت إليه وهو خارج من البنك في اتجاه سيارته، وبين الحين والآخر يتقدم أحد المريدين مقبلا يده، وهو يستغفر الله مبتسما، فقال: يا دكتور نصر، إذا أردنا أن نرقيك إلى أستاذ، فعلى أي تخصص تكون ترقيتك؟ - هذا يتوقف على هل هو المعيار القديم لتصنيف التخصصات، أم المعيار الحديث الذي لا يضع فواصل عازلة ويفتح المجال للتخصصات البينية. - وضح أكثر لو سمحت. - بالمعيار الكلاسيكي، فتخصصي هو الدراسات الإسلامية. - تقصد الفلسفة الإسلامية؟ - بل كل ما يحيط بنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية من تراث تفسيري يدخل تحت مفهوم الدراسات الإسلامية بالمعنى المتعارف عليه، في التصنيف الكلاسيكي المأخوذ به في الجامعات العربية. - وما هو التصنيف الحديث؟ - تخصصي يكون علم تحليل الخطاب. - أنا شاكر لك. •••
اجتمعت اللجنة الدائمة اجتماعها الرابع يوم الخميس، الثالث من ديسمبر، بعد سبعة أشهر من تقدم «نصر أبو زيد» لها، مما يخالف القانون. وقد رقت اللجنة كثيرين تقدموا معه وبعده؛ فقدم د. «محمود علي مكي» تقريره عن الأعمال، وختمه: «نرى أن إنتاجه كاف، يؤهله للترقية إلى درجة أستاذ في قسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة القاهرة.» وتقرير د. «عوني عبد الرءوف» عن أعمال «نصر أبو زيد» ختمه ب: «ترقى به للحصول على درجة أستاذ، والله الموفق وبه نستعين.» ثم تقرير د. «عبد الصبور شاهين» الذي ختمه: «الإنتاج المقدم لا يرقى إلى درجة أستاذ بقسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة القاهرة. والله ولي التوفيق.» وقبلت اللجنة تقرير د. شاهين بفارق صوت واحد، في الغالب صوت د. «شوقي ضيف». واعترض د. «سيد النساج» بشدة على رفض تقريرين لعالمين جليلين يوصون بالترقية، وقبول رأي تقرير واحد، وانسحب من اللجنة. وكان التقليد أن يوقع كل الحضور على التقرير الذي اختارته الأغلبية، فوقع الجميع بشرط شطب كل العبارات التي تتعرض لعقيدة الباحث أو مهاجمة أفكاره، وأن يعاد كتابة التقرير.
اجتمع مجلس قسم اللغة العربية بآداب القاهرة في اجتماع طارئ، بعد أربعة أيام من تصويت اللجنة العلمية الدائمة ، يوم الإثنين السابع من ديسمبر، لمناقشة التقرير على مستوى الأساتذة بعدد مماثل لأعضاء اللجنة الدائمة، فحضر الدكاترة «يوسف عبد القادر خليف»، و«محمود علي مكي»، و«نبيلة هانم إبراهيم»، و«سيد حنفي حسنين»، و«محمود فهمي حجازي»، و«أحمد علي مرسي»، و«جابر عصفور»، و«طه وادي»، و«شوقي رياض»، و«عبد الله التطاوي»، و«أحمد شمس الدين الحجاجي»، و«سليمان العطار». ومنهم أربعة أعضاء في اللجنة العلمية الدائمة للترقيات. ولم يحضر الدكتور «شوقي ضيف» الاجتماع. رفض مجلس أساتذة قسم اللغة العربية بإجماع الحاضرين تقرير اللجنة لمخالفته التقاليد العلمية، وأعدوا تقريرا للرد اشترك في إعداده د. «محمود مكي»، ود. «جابر عصفور» ود. «نصر أبو زيد». وسجل المجلس التقدير للإنجاز العلمي الذي ينطوي عليه الإنتاج المقدم من الدكتور «نصر حامد أبو زيد»، وبإجماع الحاضرين، إنتاجا جديرا بأن يرقى بصاحبه كما وكيفا إلى درجة أستاذ في القسم، وأرسل رئيس القسم قرار مجلس أساتذة القسم وتقريره العلمي إلى مجلس الكلية، يوم الأربعاء التاسع من ديسمبر. اجتمع مجلس كلية آداب القاهرة في التاسع عشر من ديسمبر، وقرر تشكيل لجنة من «أ.د. مصطفى سويف، أ.د. عبد العزيز حمودة، أ.د. حسن حنفي، أ.د. جابر عصفور». وكتبت اللجنة تقريرها حول الموضوع، فنقدت تقرير د. «عبد الصبور شاهين»، ورفعت الأمر لمجلس الكلية في اجتماعه يوم التاسع عشر من فبراير، ووافق مجلس الكلية بالإجماع على التقرير؛ لينتقل الأمر إلى مجلس الجامعة.
2
كتبت تقديما للطبعة العربية لكتاب الكاتب الفرنسي فرانسوا بورجا، الذي صدر بالفرنسية سنة تسع وثمانين، ونشر بالعربي بعنوان «الإسلام السياسي صوت الجنوب»، ونشر تقديمي في مجلة العربي الكويتية كمقال في شهر أكتوبر اثنين وتسعين. عددت مميزات الكتاب من حيادية كمراقب غربي إلى حد كبير، وتركيزه على الظاهرة في المغرب العربي مما يبين خصوصية الظاهرة في بلدان المغرب؛ فلم يكن بحثا في الأيديولوجيا والمفاهيم النظرية، بل الفاعلية السياسية والاجتماعية. واعتماده على شهادات زعماء الحركات؛ مما جعل مادته خصبة لمزيد من البحث. ورده أسباب العنف إلى غياب الديمقراطية الحقيقية في الوطن العربي، وللركود الاقتصادي والاجتماعي. والقارئ للكتاب ينتهي إلى نتيجة مهمة وجوهرية مدرجة في ثناياه؛ أن الإسلام في النصوص المقدسة ليس وحده المولد لظاهرة الإسلام السياسي، كما يحلو لزعماء الاتجاهات الإسلامية أن يقولوا، بل الظاهرة متولدة عن واقع مركب. لكن الكتاب مكتوب للقارئ الفرنسي، ويدخل في حالة سجال للمؤلف مع الصورة السائدة في الإعلام الفرنسي من هجوم، فأخذ موقفا دفاعيا مما جعله يتبنى كثيرا من أطروحات الإسلام السياسي، دون فحص دقيق لمدى مطابقة هذه الأطروحات للواقع، مثل علمانية المشروع القومي، وقضية المرأة وعلاقتها بالإسلام السياسي، وأكدت أن المرأة التي لا يعاديها الإسلام السياسي هي المرأة المنخرطة في نشاطه والمندرجة بزيها وهيئتها ومفاهيمها في أيديولوجيته، لكن ماذا عن المرأة المتبرجة؟
بعد اجتماع طارئ لمجلس قسم اللغة العربية بآداب القاهرة للرد على تقرير «عبد الصبور شاهين» بيوم، كتب الأستاذ «فهمي هويدي» في مقاله الأسبوعي يوم الثلاثاء الثامن من ديسمبر اثنين وتسعين عرضا لكتاب فرانسوا بورجا، وفي آخر جزء من المقال وجه النقد لي دون ذكر اسمي، يتهمني بالحساسية الشديدة إزاء الإسلام ذاته والعداء للظاهرة الإسلامية، وأني رافض لأي فهم وتفاهم، وأعتبر الإسلام تاريخا أقرب إلى الفولكلور الذي انتهى زمانه، فكتبت ردا على إشاراته نشرته الأهرام بعد شهر ونصف، يوم الأحد الرابع والعشرين من يناير سنة ثلاث وتسعين، بعنوان «خطاب الإسلام السياسي والعنف المستتر»، حللت فيه مقال «هويدي»؛ فالتطرف هو أخذ طرف في مواجهة طرف آخر، فكيف أكون ضد الكتاب وأنا من أشرفت على مراجعة ترجمته، وكتبت له تقديم، لكن ليس معنى هذا ألا أحلله نقديا. ولم يذكر «هويدي» ميزة للكتاب لم أذكرها، لكن خطاب «هويدي» أنه لا يقبل أقل من الاتفاق التام ومن التسليم المذعن لأطروحاته دون نقاش؛ فالعنف ظاهر في مقاله، فيصفني بالحساسية تجاه الإسلام والعداء الشديد للظاهرة الإسلامية، فهو لم يناقش أيا من الأفكار التي اختلفت فيها مع فرانسوا بورجا، مكتفيا بالأوصاف الموهمة بالانحراف الفكري والزندقة والكفر والإلحاد. وتصورت ذلك لخلفيته الأزهرية.
يوم الثلاثاء السادس والعشرين ، وفي مقاله الأسبوعي ضمن «هويدي» «صندوق مباشر» بعنوان «قضية منعدمة ومصارحة واجبة»، يرد على ما كتبت واصفا مقالي بمثابة بلاغ ضده، وذكر تاريخ نشر مقالي خطأ، وقال إنه خريج كلية الحقوق جامعة القاهرة. وقال عني: «حساسيته إزاء الإسلام ذاته هي التي تحتاج إلى وقفة؛ فالرجل مشغول منذ سنوات بمسألة تأويل النص القرآني التي هي في جوهرها عبث بالنصوص وتعطيل لها، وهو القائل في كتابات عديدة بتاريخية النص القرآني، وهي فكرة تتعارض في منطقها مع مقتضى الإيمان الديني. لما قرأت هذا الكلام رثيت للرجل وفهمت لماذا رفضت اللجنة العلمية ترقيته من أستاذ مساعد إلى أستاذ.»
كتبت ردا عليه ولم تنشره «الأهرام»، ونشر بعد ذلك بثلاثة أشهر في مجلة «القاهرة» عدد أبريل ثلاثة وتسعين، أشرت فيه إلى أن العنف المستتر الذي حللته في خطاب «فهمي هويدي» في مقالي السابق، ها هو يمارس إرهابه في العلن، فيثبت صدق تحليلي، لكن لا أقبل منه التلميح المعرض بشأن جامعي لم يصدر به قرار ولم يتحول بعد إلى أن يكون شأنا عاما، وهو تلميح أخطر ما فيه السعي إلى التأثير في القرار بسلطة الإعلام المخولة له وبالصفحة الأسبوعية التي يستخدمها هنا استخداما شخصيا، ويعلم «هويدي» جيدا - كما تعلم المصادر التي زودته بالمعلومة - أن القرار النهائي كان وما زال هو قرار الجامعة، و«ما هكذا يا سعد تورد الإبل». •••
Halaman tidak diketahui