لم أصدق أذني، إنها تبادلني نفس المشاعر. شعرت أن صخرة كبيرة بدأت تنزاح عن صدري، كلماتها كانت نجاتي وعوني في أن أتخذ القرار الذي خشيته منذ زمن، فجلست مع «أحلام» لأخبرها أنه من الأفضل لها ولي أن ننفصل، أو بمعنى صحيح أن يصبح انفصالنا رسميا. تركت لها الشقة التي فرشناها، واقتسمت معها مدخراتي النصف بالنصف دون أن تطلب.
بدأت أعرف أكثر عن «ابتهال» وعن أسرتها، وأكتشف أصولها التركية، ومكانة والدها عليه رحمة الله، كان سفيرا ومستشارا للغة الفرنسية، أحد تلامذة «طه حسين»، ودفعة «نجيب محفوظ». عاشت طفولتها بين فرنسا والنمسا. أخبرتني «ابتهال» بما حدث بينها وبين والدتها حين علمت بموضوعنا، ورفضت فكرة ارتباطنا تماما. طلبت أن أتواصل بوالدتها، والتي كانت مهذبة جدا، لكن حادة كسكين. سألتها عن سبب اعتراضها، قالت: «مقدرش أقولك، لازم تفهم لوحدك.» حاولت الاتصال بأخيها الذي يصغرها، فكان يتكلم معي وكأنه يتحدث عن طفلة وليس عن الدكتورة «ابتهال»، البالغة التي يمكن أن تتخذ قرارها بنفسها في أمور حياتها.
ذهبنا إلى محل المجوهرات واشترينا دبل الخطوبة، ولبستها في المحل، وعادت إلى البيت ورفعت إصبعها بالدبلة إلى والدتها، وقالت إنها خطبت، وإننا سنتزوج بعد انقضاء رمضان. حينما شعرت الأسرة أننا مصممان على الزواج لم يجدوا مفرا، فاقترحت الأسرة أن نقيم فرحا، فقالت «ابتهال»: «اعملوا فرح كبير وادعوا معازيم، لكن مش هنحضر.» فلم يكن معنا نقود. اشتريت لها خاتما، وعقدنا الزواج في الرابع من أبريل. ذهبنا لنتصور صورة الزواج، ومعنا والدتها طوال الطريق لم توجه كلمة لي ذهابا أو إيابا. جلسنا في بيت أسرتها قليلا، ثم توجهنا إلى شقة صغيرة حصلنا عليها من المساكن في ضاحية ستة أكتوبر النائية بالدور الأرضي. حينما اجتمعنا في شقتنا وأغلقنا بابنا، شعرت برغبة جارفة للبكاء، بكاء حبسته داخلي سنوات منذ وفاة والدي، حمل كبير حملته على أكتافي مع والدتي، عليها رحمة الله؛ فالآن تبدأ حياتي، الآن أعيش.
8
قبل الزواج انتهيت من مقال نشرته مجلة «أدب ونقد » في شهر مارس سنة اثنتين وتسعين، بعنوان «التراث بين الاستخدام النفعي والقراءة العلمية، سلطة النص في مواجهة العقل»، كنت قد ألقيته في مؤتمر «التراث وآفاق التقدم في المجتمع العربي» بمدينة عدن باليمن في الثالث من فبراير الماضي. شغلني السؤال: لماذا حين يذكر التراث يتبادر إلى الذهن الدين أو الفكر الديني؟ ولماذا يلح علينا هاجس التراث هذا الإلحاح المؤرق، والذي يكاد يجعلنا أمة فريدة في تعلقها بحبال الماضي كلما مررنا بأزمة؟ لقد قامت ثقافتنا المعاصرة باختزال التراث في الإسلام الذي أصبح هو الهوية التي إذا تخلينا عنها ضعنا. وتم اختزال الإسلام في الفهم الأشعري المسيطر لقرون، والفهم المعتزلي مهمش. وتم اختزال الآخر الغربي في الغرب المعتدي الغازي المحتل، أو الغرب المتقدم المتحضر المعلم؛ فهذه النظرة للتراث وللغرب لا خروج لنا من أسرها إلا بإدراك تاريخية التراث بعمقه إلى ما قبل الإسلام، وتعددية رؤاه وتوجهاته؛ أي بإنتاج وعي علمي بالتراث في سياقه التاريخي، وكذلك بإدراك تركيبة الآخر، وأن الغرب الغازي لا يمثل الإنجاز الحضاري، ولا نحصر الإنجاز الحضاري له في العلم والتكنولوجيا فقط، بل كلاهما ثمرة لشجرة أعمق وأوسع.
كلمة تراث لم ترد في النص القرآني بالمعنى الذي نستخدمه الآن، لكن الكلمة التي وردت تعبر عن معنى التراث كما نستخدمها هي كلمة السنة، وجاءت تعني طريقة حياة الناس أو الشريعة التي ارتضوها في الماضي؛ لذلك فسنة الرسول الكريم هي أقواله الشارحة والمبينة لما ورد مجملا في تعاليم القرآن، وما سواها من أقوال وأفعال يجب أن يدرج في سياق الوجود الاجتماعي؛ أي تفرقة قدمائنا بين سنة الوحي وسنة العادات. والسؤال هو: هل كل ما ورد في كتب السنن والأحاديث مع افتراض صحته جميعا ونسبته للنبي، هل يدخل في جانب الدين المقدس؟ «الإمام الشافعي» هو من بدأ وضع الأسس الفكرية والفقهية لإدماج السنة في الدين، وإعطائها استقلالية التشريع، ومن بعده «الأشعري» الذي ناهض فكر المعتزلة وأسس لسلطة النقل في مواجهة تيارات أخرى تحاول تأسيس سلطة العقل دون إهدار مجال فاعلية النصوص. وأتى «الإمام أبو حامد الغزالي» ليكمل نفس الخطوة في مجال الفكر والفلسفة. تكون موقفان من سنة السابقين أو التراث، يلوذ أحدهما محتميا من تقلبات الزمن والتاريخ وتغيراتهما بالتراث، وآخر يهتم بحاضره وواقعه دون أن يغفل فعالية التراث أو يتجاهلها. لكن الصراع حسم قديما لصالح النقل وضد العقل؛ لأسباب تاريخية وسياسية واجتماعية وليست فكرية. هكذا تحددت قوانين إنتاج المعرفة في الثقافة العربية على أساس سلطة النصوص عبر النقل، وأصبحت مهمة العقل محصورة في توليد النصوص من نصوص سابقة. هذه الآلية هي المسئولة عن جعل التراث الديني الإطار المرجعي الوحيد للعقل العربي، بالإضافة لمفهوم شمولية الدين.
الجانب الآخر: إشكالية علاقة العقل العربي بالآخر الغربي. فالاستشراق كذراع فكرية للاستعمار رسم صورة لنا بأننا مسلمون دينا ووطنا، وأن سر تخلفنا وانحطاطنا هو الإسلام؛ فشرع المفكرون المسلمون يدافعون عن الإسلام بأن سبب تخلفنا هو البعد عن الإسلام، وما تقدمت أوروبا إلا بقيم الإسلام ؛ فالعقل العربي تقبل رؤية الاستشراق أن الإسلام هو هويته، لكنه رفض ربط التخلف بالإسلام. وانخرطنا في رد فعل ولم نبحث عن أسئلتنا نحن النابعة من قضايانا، بل دافعنا بأن تم الفصل بين الإسلام والمسلمين، وإعادة تفسير تعاليم الإسلام لينطق بقيم التمدين والحضارة كرد فعل لما طرحه الغرب؛ فمارس خطاب النهضة التجديد على أساس نفعي لتحقيق مهمة تقبل المدنية الأوروبية. والخطاب السلفي يعتمد نفس الأساس النفعي في تأويل الإسلام والتراث لرفض المدنية الأوروبية. في كلتا الحالتين تم إنتاج وعي زائف بكل من التراث والحضارة الأوروبية، وبهذا الوعي الزائف أصبح العربي يحيا في الغالب تاريخا غير تاريخه، سواء كان لحظة ماضية في الزمان الأوروبي أو في زمانه التراثي، ولم يبق له في لحظته الراهنة سوى التبعية للغرب على مستوى الحياة المادية، باستيراد التكنولوجيا والاتباع لإحدى لحظات الماضي على مستوى الوعي، دون أن نبحث عن الأسباب الحقيقية للتقدم والتطور والنهوض بردها إلى عملية تحرير الإنسان وتحرير عقله.
شاركت في ندوة بمدينة إشبيلية الإسبانية بعنوان «الأندلس ملتقى ثلاثة عوالم»؛ وذلك لبحث عن دور الأندلس في تشكيل الصبغة الفكرية لفلسفة «محيي الدين ابن عربي» الصوفية. وفي أثناء إعدادي للدراسة تنبهت إلى سيطرة البنية القرآنية كنموذج ونمط سردي على بنية كتاب «الفتوحات المكية». ولا أقصد مجرد الحضور الطاغي للاستشهادات القرآنية المباشرة وغير المباشرة، بل أعني تعمد «ابن عربي» الانتقال من موضوع إلى موضوع آخر تقليدا للبنية القرآنية التي يتحرر فيها السرد من وحدة الموضوع تحررا تاما. وشاركت بها في مؤتمر «الحضارة الأندلسية» بكلية آداب القاهرة في الحادي عشر من شهر يناير اثنين وتسعين، أعيد فيها النظر إلى خطاب «ابن عربي». وطلبت مني مجلة «الهلال» المشاركة في ملف لها عن التصوف، في عدد شهر مايو اثنين وتسعين، فكتبت «محاولة قراءة المسكوت عنه في خطاب ابن عربي».
في دراساتي السابقة عن «ابن عربي» حللت خطابه بالوقوف عند ما يقوله، لكن لا بد من قراءة تحفر درجة أعمق، تتلمس الدلالات الضمنية الكامنة والمستقرة وراء مستوى المعاني الظاهرة؛ بأن ندرس مستوى المسكوت عنه؛ فقد وقعنا كباحثين بدرجات متفاوتة في شراك القراءة الاستنباطية التأويلية الذاتية، التي تسيطر فيها فلسفة «ابن عربي» على تأويله. وكانت لإشارات الأستاذ «ميشيل شودكيفيكس» المستعرب الفرنسي في نهاية عرضه النقدي لرسالتي للدكتوراه، حافز على الاهتمام ببنية خطاب «ابن عربي»؛ فبينة أي خطاب تتحدد من مستويات أهمها مدى توافق البنية أو مخالفتها لما هو سائد. لا يتوقف تأثر نص «ابن عربي» أو تناصه بالنص القرآني عند حدود البنية الخارجية فقط، بل يندمجان ويتراكبان في مستويات متعددة من السياق، حتى ليصعب على القارئ في كثير من الأحيان فصل صوت «ابن عربي» عن الصوت القرآني في النص. ويبدو أن «ابن عربي» لا يحاول فحسب محاكاة جماليات النص القرآني، بل إبداع نص جديد يدخل القرآن في نسيج بنيته جزءا مؤسسا، هذا الطموح الإبداعي هو الذي أثار وما يزال غيظ الفقهاء ورجال الدين. «ابن عربي» يستحق قراءة شاملة تفصيلية تكشف أبعاد كل ذلك، وأتمنى أن أقوم بها يوما ما.
تقدمت إلى لجنة الترقيات بالجامعة للترقية إلى درجة «أستاذ»، يوم تسعة مايو سنة اثنتين وتسعين، بكتاب «نقد الخطاب الديني»، في طبعة دار الثقافة الجديدة، وكتاب «الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية»، وبحث «إهدار السياق في تأويلات الخطاب الديني» كنص مكتوب على الآلة الكاتبة على وشك النشر، ودراسة باللغة الإنجليزية: «الإنسان الكامل في القرآن»، ومعه ملخص بالعربية نشر في مجلة جامعة «أوساكا» في اليابان، وبحث «التأويل في كتاب سيبويه» المنشور في مجلة «ألف»، ومقال «سلطة النص في مواجهة العقل»، ومقالان بمجلة «إبداع»: «مفهوم النص، الدلالة اللغوية»، والثاني «التأويل»، وبحث «مركبة المجاز من يقودها؟ وإلى أين؟» المنشور في مجلة «ألف»، ومقالي عن «ابن عربي» في مجلة «الهلال»، ومقال «قراءة التراث في كتابات أحمد صادق سعد» ألقيته في ندوة «إشكاليات التكوين الاجتماعي»، ومقال مجلة «القاهرة» «ثقافة التنمية وتنمية الثقافة»، والمقدمة التي كتبتها لترجمتي لكتاب البوشيدو. انتهى الطالب أحمد النقيب تحت إشرافي من رسالته للماجستير التي كنت راضيا عنها، وبدأت تذوب تحيزاته مع تطبيقه منهجا نقديا في دراسته ، وشكلت لجنة لمناقشة رسالته من أستاذ في اللغويات وآخر في العقيدة. وفي قاعة كبيرة بالجامعة لكي تكفي الأعداد الكبيرة التي أتت لحضور المناقشة، امتلأت بالسلفيين بلحاهم الطويلة، وسيدات منتقبات، فعلق أحد الأساتذة على المشهد قائلا لي: «أنت أحضرتنا هنا لنغتال ولا إيه؟!» وكانت زوجتي «ابتهال» الوحيدة من النساء الحاضرات بغير غطاء رأس، وتجلس خلفها زوجة أحمد تحمل طفلهما الرضيع. لاحظت «ابتهال» أثناء المناقشة احتياجها لترضع وليدها، فأخذتها إلى أحد المكاتب.
Halaman tidak diketahui