مشروع اليسار الإسلامي أقرب إلى الإخفاق منه للنجاح؛ لأخذه التراث كمرجعية، واعتباره أن قراءة جديدة للتراث يمكن أن تصلح الواقع، والقراءة ذاتها كانت انتقائية؛ إعادة طلاء. إلا أن له بعض الإنجازات في التعامل مع التراث؛ بأن أعاد تأويل العقائد، وعقيدة الألوهية، خاصة أنها محاولة من الإنسان لتجاوز اغترابه في العالم. وأصر على التعامل معها بوصفها تصورات ذهنية تمثل موجهات للسلوك. وقد ركز على علاقة الوحي بالواقع في بعده الأفقي، وليس كاليمين الديني الذي يركز على البعد الرأسي للعلاقة المتمثلة في أصل الوحي ومصدر الرسالة. إن قراءتي ما كان لها أن تتم إلا بالدور الذي قام به خطاب اليسار الإسلامي، من خلخلة الكثير من الثوابت والمسلمات المستقرة في وعينا الديني. وهذه القراءة هي محاولة لجذبه إلى آفاق إنتاج وعي علمي بالتراث والواقع في نفس الوقت بعيدا عن التلوين وصولا إلى أفق التأويل، في إدراك الواقع والتراث معا.
دخلت علي سكرتيرة قسم اللغة العربية بآداب القاهرة، تخبرني أن هناك شابا اسمه «أحمد النقيب» في انتظاري، لكنه في حالة من الهلع والدعاء وقراءة القرآن. سألتها: «من أحمد؟» قالت: «طالب الماجستير الذي حول الإشراف على رسالته إلى حضرتك لسفر أستاذه المشرف.» تساءلت: «وخايف من إيه؟» قالت: «مش عارفة، لكنه بذقن طويلة، هو من الجماعات الإسلامية.» تنبأت بسبب خوفه. فسألتني: «هل أدخله؟» قلت: «لا. أذهب إليه بنفسي.» ذهبت إلى مكان الانتظار وتعرفت إليه مباشرة من وصف السكرتيرة له: «أهلا يا أحمد، إيه رأيك نتمشى شوية لأني عايز أمشي رجلي؟» أحمد محسوب على تنظيم الجهاد، ودخل السجن. وعلى الرغم من أنه الأول على دفعته في المنصورة فلم يعين، فرفع قضية ضد الجامعة وكسبها فعين، لكن لضغط العمل في المنصورة حول إشرافه إلى جامعة القاهرة، ورسالته عن نظرية اللغة عند «ابن تيمية». قلت له إنه من حقه أن يختار المشرف الذي يرتاح إليه، وعليه أن يفكر في أي أستاذ يريد، وأنا أسعى مع إدارة القسم لتلبية طلبه. حاول أن يتكلم، فقاطعته قائلا: هذا حقك، وهذا رقم تليفون بيتي، فكر أسبوعا واتصل بي ، أخبرني بمن تريد. بعد أسبوع طلب لقائي ليخبرني أنه يريدني أن أشرف على رسالته، فقلت: أحمد، أنا ليس لي دخل في فكرك الديني أو السياسي، أنت حر فيما تؤمن به، لكن أنت تحت إشرافي باحث، والباحث لا يبحث عن موقف ما من موضوع البحث، بل هو يبدأ من أسئلة من نتاج بحثه، يعتصر المصادر والمراجع في سياقها التاريخي والاجتماعي بحثا عن الإجابة؛ فإذا كنت تريد أن تكون باحثا فيسعدني الإشراف عليك، وإن كنت تريد أن تكون داعية فابحث عن أستاذ آخر. قال مسرعا: «باحث، أريد أن أكون باحثا.»
3
نشرت الهيئة المصرية العامة للكتاب كتابي «مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن» في سلسلتها «دراسات أدبية»، ليباع بخمسة جنيهات وأربعين قرشا. وشاركت في الاحتفالية التي أقمناها للذكرى العاشرة لرحيل أستاذي «عبد العزيز الأهواني»، وألقيت فيها بحث «قراءة النصوص الدينية، دراسة استكشافية» في شهر مارس سنة تسعين، ونشر في مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد، عدد أربعة وعشرين، سنة تسعين. فبعد دراستي النقدية للفكر الديني يمينه ويساره، سعيت لدراسة أنماط الدلالة أو المعاني في النصوص الدينية، وخاصة القرآن. نشرت بعد ذلك في الكتاب الدوري «قضايا وشهادات» في عدده الثاني، سنة تسعين؛ فالفكر في جوهره حركة لاكتشاف المجهول ، نبدؤها مما هو معلوم لنا سعيا وراء المجهول، والفكر الديني أيضا يخضع للقوانين التي تحكم الفكر البشري، وليس له قداسة؛ لأنه يدرس الدين المقدس؛ فهناك فرق بين الدين والفكر الديني؛ فالدين بنصوصه المقدسة الثابتة، أما الفكر الديني فهو الاجتهادات البشرية لفهم تلك النصوص وتأويلها واستخراج معانيها ودلالاتها، لكن السؤال الحقيقي هو: «كيف استطاع الفكر الديني المعاصر أن يخفي هذا الفرق ويشيع إطلاقية لاجتهاداته وفكره تقارب حدود قداسة الدين؟!»
وصلنا إلى هذا الحال بعد قرنين من محاولة النهوض؛ لأن مشروع نهضتنا مشروع تلفيقي بسبب هشاشة الطبقة الوسطى حاملة لواء النهضة، وتبعيتها الاجتماعية والاقتصادية؛ الأمر الذي أدى بها إلى التبعية السياسية؛ فخطاب النهضة ظل يبارز نقيضه السلفي سجاليا بنفس السلاح، دون أن يسعى إلى تجاوز حالة السجال النفعي بإنتاج وعي علمي بالتراث، من هنا حالات التحول من مفكرين، بتقدم العمر، من اليسار إلى السلفية. وعلى الرغم من النجاحات الجزئية لخطاب النهضة، حيث رفع غطاء القداسة عن الفكر الديني القديم والحديث، مع وضع بذور التعامل مع التراث كظاهرة تاريخية، وبوصفه صراعا بين تيارات واتجاهات، لكن أهل التجديد لم ينتجوا وعيا تاريخيا علميا بالنصوص الدينية، وظلوا مثل أهل التقليد في ظل الرؤية اللاتاريخية للنصوص الدينية.
والوعي العلمي التاريخي يتجاوز أطروحات الفكر الديني قديما وحديثا؛ فعلوم القرآن التي تربط الآيات بالواقع، مثل أسباب النزول، والمكي والمدني، والناسخ والمنسوخ ... إلخ. لا بد أن نبني على ذلك باستخدام إنجازات علوم اللغة، خاصة في مجال دراسة النصوص؛ فالنصوص الدينية هي في الأساس نصوص لغوية، الله تعالى استخدم لغة البشر بقواعدها وارتباطها بالثقافة ليخاطب البشر، وهذه اللغة العربية التي استخدمتها النصوص الدينية تنتمي إلى بنية ثقافية محددة تم صياغة النصوص تبعا لها، ولكن للنصوص خصوصا المؤثرة منها فعاليتها وقدرتها الخاصة في التأثير في الثقافة، بل وإعادة تشكيلها. وتفرقة عالم اللغة السويسري «فرديناند دي سوسير» (1272ه/1857م-1330ه/1913م) بين اللغة والكلام؛ فاللغة هي النظام الدلالي للجماعة في كليته وشموليته بمستوياته الصرفية والنحوية والدلالية، وهي المخزون الموجود قبل الفرد الذي يستخدم هذه اللغة للكلام بها. والعلاقة بين اللغة والكلام علاقة جدلية باستمرار. والنصوص لا تنفك عن النظام اللغوي العام للثقافة، لكنها من ناحية أخرى تبدع شفرتها الخاصة التي تعيد بناء عناصر النظام الدلالي من جديد، فيضيف مبدعون بنصوصهم إلى اللغة ألفاظا وتراكيب ومعاني، وتقاس مدى إبداعية النصوص في الثقافة من تطويرها في النظام اللغوي. وهناك منطقة مشتركة بين اللغة والكلام هي التي تجعل الكلام مفهوما للمعاصرين للنص، وهي المنطقة المشيرة إلى الواقع والتاريخ، وخارج هذه المنطقة تكون دلالات ومعاني الكلام والنصوص مفتوحة وقابلة للتجدد مع كل قراءة جديدة وكل تغير في أفق القارئ وعصره وثقافته.
لكن هل قدسية مصدر نصوص القرآن تجعلها لا تخضع لقواعد كلام البشر؟ فالله سبحانه يرسل رسالة للبشر مستخدما لغتهم بقواعدها. وإلهية المصدر لا تنفي بشرية الوسيلة التي تحمل الرسالة، وفهم البشر لهذه الرسالة هو الهدف لو دققنا في نظرة النصوص الدينية الإسلامية لكل من القرآن الكريم والمسيح عليه السلام؛ فالقرآن كلام الله، وكذلك عيسى، عليه السلام، كلمة الله إلى «مريم» (سورة النساء: 177، آل عمران: 3). والقرآن ألقي على النبي محمد عليه السلام، كذلك عيسى (النساء: 171). وتم الاتصال عن طريق وسيط في الحالتين، هو الملك «جبريل» الذي تمثل للنبي في صورة أعرابي، وتمثل ل «مريم» بشرا (مريم: 17). فكلام الله تجسد في المسيحية مخلوقا بشريا، وفي الإسلام تمثل نصا لغويا؛ أي عبر اللحم والدم في المسيحية، وعبر اللغة العربية في الإسلام. والفكر الديني الإسلامي يؤمن أن كلمة الله عيسى إلهي المصدر لكنه بشر، وينكر على الفكر الديني المسيحي تصور طبيعة مزدوجة إلهية وبشرية للمسيح، ويصر على بشريته في حين أنه ينظر إلى القرآن ذي الطبيعة المزدوجة أيضا؛ فإلهية المصدر لكلام الله لا تنفي بشرية اللغة التي صيغ بها، والهدف هو التواصل مع البشر برسالة وبلاغ وهداية ونور ... إلخ من صفات القرآن لذاته. وموقف المعتزلة بتبني بشرية النصوص الدينية، رغم أهميته، يظل موقفا تراثيا تاريخيا دالا على بواكير وإرهاصات ذات مغزى لتأسيس الوعي بطبيعة النصوص الدينية، لكنه يظل شاهدا تاريخيا.
وجدت ثلاثة مستويات للدلالة في القرآن: دلالات ليست إلا شواهد تاريخية، لا تقبل التأويل المجازي، مثل كل ما يتصل بتجارة الرقيق، وملك اليمين للمعاشرة، إلى جانب الزوجات الأربع، وجعل عقاب الجارية نصف عقاب الحرة في الزنا، والتكفير عن الذنوب بعتق رقبة؛ لسقوط نظام العبودية ذاته. المستوى الثاني: دلالات قابلة للتأويل المجازي؛ فكلمة «عبد» في اللغة جمعها عبيد، لكن القرآن الكريم استخدم صيغة جمع جديدة، عباد، تاركا صيغة عبيد المتأصلة في ثقافة الجزيرة العربية لتدل على غير المؤمنين، في حين خصصت «عباد» للمؤمنين، بالإضافة إلى إلحاح النصوص على المساواة بين البشر في الجزاء الديني، وألا تكون التفرقة على أساس الإيمان والعمل الصالح؛ فموقف الإسلام يتجه في اتجاه المساواة وإلغاء العبودية؛ فحين يستخدم الخطاب الديني العبودية أساسا للعلاقة بين الإنسان والله لكي يؤسس عليها مفهوم الحاكمية، مهملا أساس الحب والرحمة، حيث يستخدم الخطاب الديني آلية التضييق الدلالي في مفهوم العبودية بالعودة به إلى عبيد ملغيا العباد، والطاعة وليس الحب والرحمة. وكذلك يستخدم آلية التوسيع الدلالي على أساس مجرد التماثل الصوتي، عند تناوله مفهوم الحاكمية، بين «حكم»، وتعني التحكيم والفصل بين متخاصمين اختاروا تحكيمك طوعا منهما، وبين «حكم» كما نستخدمها في عصرنا بمعنى الحكم الشامل في النظام السياسي.
المستوى الثالث من دلالات النصوص الدينية: دلالات قابلة للاتساع على أساس المغزى الذي يمكن اكتشافه من السياق الثقافي/الاجتماعي الذي تتحرك فيه النصوص، ومن خلال اتجاه حركة النص، من خلال علاقة الجدل بين المعنى والمغزى؛ فالمعنى هو المفهوم المباشر الذي يستنبطه المعاصرون للنص من منطوقه، ويمكن الوصول إليه من السياق اللغوي الداخلي والثقافي والاجتماعي، ويكون هذا المعنى ثابتا نسبيا. أما المغزى فينطلق من المعنى، لكنه محصلة القراءة والخبرة بهموم العصر وصراعاته. باغتني خبر وفاة أستاذي الدكتور «عبد المحسن طه بدر» (1932-1990م) ليعلن رحيل جيل من العظام في حياتنا الثقافية وفي الجامعة.
أرسلت مقالتين لمجلة «إبداع» التي تصدرها وزارة الثقافة، بعد تولي الشاعر «أحمد عبد المعطي حجازي» رئاسة تحريرها، نشرتا بشهري أبريل ومايو سنة تسعين ، عن مفهوم النص؛ بحثا في جوانب أخرى داخل الثقافة العربية الإسلامية. فالخطاب الديني المعاصر - حين يتمسك بالمبدأ الفقهي القديم «لا اجتهاد فيما فيه نص» في وجه أي محاولة للاجتهاد الحقيقي - فهو يعمل نوعا من المخادعة الدلالية؛ باستخدام كلمة «نص» للدلالة على كل النصوص الدينية - القرآن الكريم والأحاديث النبوية - بصرف النظر عن وضوح دلالة النصوص وغموضها. عرضت التطور الدلالي لدلالة «نص» لغويا من الحسي إلى المعنوي، ثم إلى الاصطلاحي. النص هو الواضح وضوحا لا يحتاج معه إلى بيان آخر؛ فكل ما غمض أو احتمل أكثر من معنى ليس بنص. وفي المقالة الثانية حاولت الكشف عن مفهوم الثقافة للنص من خلال تتبع مفهوم التأويل؛ عودة إلى استخدامه قبل الإسلام واستخداماته في النص القرآني، حيث ورد سبع عشرة مرة في القرآن، ولم يذكر الدال «نص» مرة واحدة. ووجدت أن الثقافة العربية تحمل مفهوما للنص أوسع من مفهوم النصوص اللغوية، مفهوما سيميوطيقيا، لكنه مفهوم يجعل السيادة للنصوص اللغوية على غيرها من النصوص. النص بالمفهوم المعاصر سلسلة من العلامات المنتظمة في نسق من العلاقات تنتج معنى كليا يحمل رسالة، سواء كانت العلامات باللغة الطبيعية - الألفاظ - أم كانت علامات بلغات أخرى. وإذا كانت الآية علامة والنص رسالة فإن الكون كله - في الخطاب القرآني - سلسلة من العلامات الدالة - الآيات - على وجود الله وعلى وحدانيته.
Halaman tidak diketahui