وحين رأت إلهام نازك لم تحدق فيها؛ فهي تعرف كيف تكون متكبرة، ولكنها أحست بشعور عجيب من الرضى. إنها في عمر نديرة أو تكاد، إن هذه السيدة التي تزوجت طليقي لا بد أن تخونه، ستنتقم لي هذه الفتاة، لا، لم تستطع السنون الطويلة أن تمحو ما أذلني به. طعنني في أنوثتي وفي سمعتي وجعل مني أحدوثة بين الناس، إن لم تنتقم لي نازك فإني سأنتقم، بل إني سأنتقم حتى وإن انتقمت نازك، إنها حلوة، وصغيرة، وحامل في شهورها الأخيرة ولم يمر على زواجها خمسة أشهر. فليصبح ناظر وقف وليصبح باشا وليصبح أعظم إنسان في الوجود، فإن هذا جميعه سيجعل الانتقام أعظم روعة. فكلما ارتفع المكان الذي يسقط منه كانت السقطة أبشع وأفظع وأدعى إلى شفاء النفس التي تريد أن تنتقم.
كان صالح واقفا في الحفل حائرا، إن بعضا من هؤلاء كان زميلا له في كلية الحقوق، ولكن أحدا منهم لم يكن صديقا له، إنه لا يدري كيف جيء به إلى هذا المكان. لقد وجد الدعوة موجهة إليه من نامق باشا، وطبيعي أن يعرف هو نامق باشا فكل مصري يعرفه، ولكن كيف عرفه نامق باشا أو حتى كيف عرفه موظف الوقف المختص بتوجيه الدعوات؟
انتحى مكانا وراح يجيل عينيه في الحفل، إنها الصحراء، إنهم جميعا حبات رمل متشابهة، الإيماءة هي الإيماءة، والابتسامة هي الابتسامة، والانحناءة هي الانحناءة، صحراء من الأرستقراطية مهما تتعمق فيها لن تجد ماء، قليلون منهم قليلون اهتموا بالبحث، وقليل منهم أقل اهتم بالفن، ولكنهم جميعا يهتمون بالإيماءة والابتسامة والانحناءة ، ولكن هناك شخصيات أخرى، هؤلاء الذين لم يقف بهم مجد آبائهم من زرع أسمائهم في أرض مصر لتصبح نباتا مباركا ولتصبح شجرات راسخة في تاريخها. أصولهم مصر، وجذورهم في مصر، وفروعهم تستاف هواء مصر، وتهب أريجها لأرض مصر ولسماء مصر، هؤلاء هم الواحات في صحراء الرمال والماء في الأعماق والاخضوضار المزدهر بالحياة في الاصفرار الشاحب بالموت من لون الصحراء، ولا تكون الواحة إلا في الصحراء، ولا يحلو الماء كما يحلو في البيد الواسعة للمسافر الصديان يقتله العطش أو يكاد، حتى يجد لمعة الماء وظل الشجر.
أريد أن أكون مع هؤلاء، بينهم، إنهم يعيشون مع حبات الرمل هذه، ولكن كما تعيش الواحة من الصحراء. - مرحبا أستاذ صالح.
وبهت صالح وهو يجد نفسه وجها لوجه أمام نامق باشا في وجهه المتكبر وفي ابتسامته التي تعرف كيف ترسم نفسها على شفتيه، ويعرف نامق أنه إزاء بغتة ترمي بظلها الكثيف على ضيفه. - عرفت صورتك من الجرائد، فقد قمت بعمل عظيم في الصحراء. - يشرفني ثناء سعادتك يا افندم. - خريج حقوق ومكتشف حقا، إنك من الشباب الذي تعتز به مصر. - هذا رأي يملؤني فخرا. - أريدك أن تعمل معي. - أنا يا افندم؟ - تشرف على القضايا في الوقف، وتكون الصلة بيننا وبين الحكومة. - يا افندم. - تستطيع أن تأتي لمقابلتي غدا في السابعة مساء، أنا دعوتك ليكون أول يوم تدخل فيه القصر يوم فرح، ولأتعرف بك أيضا بعد السمعة العريضة التي كسبتها. - دعوتك شرف، وسأكون عند سعادتك في الموعد. - شكرا، تعال أعرفك على موظفي الوقف، أظنك تعرف بعض المدعوين؛ فإن منهم من تخرجوا في الحقوق مثلك، تعال فكثيرون هنا يحبون أن يتعرفوا بك.
ويتأبط نامق باشا ذراع صالح المذهول ويجوسان خلال الحفل، ولا يستطيع صالح أن يجد شيئا يقوله إلا: ألاحظ أن سعادتك تميل إلى طراز لويس السادس عشر في الأثاث. - لاحظت ذلك؟ الواقع أنني أحب هذا الطراز، كما أنني أشفق على لويس السادس عشر. - ورث الثورة مع العرش. - وكان الذوق في عصره قد بلغ القمة. - فعلا، فإنني أعتقد أن طراز الإمبراطورية أو نابليون في الأثاث يوحي بالغلظة والخشونة. - هذا طبيعي. - وألاحظ أيضا أن سعادتك تعجب بالأوبيسون الذي يصور الأشخاص. - فعلا. - أتراك تحبه لأنك تحب الإنسان؟ - لا أعرف. - حتى إطارات الجوبلان كلها أشخاص. - إنك لم تضع وقتك في أوروبا. - إن دراسة الأوبيسون والجوبلان وأنواع الثريات وأنواع الستائر والسجاجيد دراسة لتفكير العصر وثقافته. - قليلون من الذين دخلوا القصر التفتوا إلى ما التفت إليه. - لعل الذين يدخلون يعتبرون رؤيتهم هذه الأشياء أمرا طبيعيا، أما أنا فلم أر مثل هذه الأشياء إلا في اللوفر وفرساي ومتاحف باريس ولندن. - أنا أعلم أن أباك ميسور الحال. - شيخ هو متخرج في الأزهر؛ فهو لا يفكر في تأثيث بيته إلا بالشيء النظيف اللائق. - إنني أزداد إعجابا بك في كل كلمة تقولها، تعال، لا أدري ما هذه المصادفة؟ إن أول من سأعرفك به أنت تعرفه طبعا، أحمد بك طلعت.
كانت عينا فتوح تتبع نامق وصالح في دربة، لا بد أن تعرف كريمة بهذه الصلة الجديدة.
ويستمر نامق في حديثه مع صالح: طبعا في أوروبا كانت كل الحفلات التي تحضرها يختلط فيها الرجال بالحريم، كثير من الحفلات هنا تقام على أساس الاختلاط، لا أعرف إن كنت حضرتها أم لا، أنا كناظر وقف كان لا يمكن أن يختلط عندي الرجال بالحريم. - اسمح لي سعادتك أن أنقل إليك ما يقوله الناس. - بل اسمح لي أنت أن تفعل ذلك معي دائما؛ فأهم شيء اخترتك له أنني أعرف أنك رجل مجتمع وتستطيع أن تنقل لي دائما ما يقوله الناس. - يقولون إنك بعد أن صرت ناظر وقف أصبحت إنسانا آخر. - هذا مديح على ما أظن. - إنني يا سيدي أعتبره مديحا عظيما. - لقد قلت رأيك في قبل النظارة بذكاء شديد، على كل حال أرجو أن تنقل إلي بعد ذلك كل ما تسمعه مديحا كان أم ذما. - ما أراه من بساطة سعادتك سيشجعني على الصدق. - المديح أسمعه كثيرا بحكم السلطة التي أمارسها. - أعرف ذلك. - أحب أن أسمع شيئا جديدا. - إذن فأنت تحب أن تكون عادلا . - بقدر الطاقة. - سعادتك تعرف أن العدل ليس سهلا. - ألم تقل إنني تغيرت؟ - ولكني لا أعرف مقدار التغير. - ستعرفه، تأكد أنك ستعرفه.
9
هل ظن أن الدنيا دانت له؟ هل خيل إليه أنني نسيت؟ أيريد أن تطمئن به الحياة وينعم في نظارة الوقف وبالزوجة الجديدة وبالوليد القادم؟ إنني أعرفه يحب دائما أن يطمئن، يحب أن يغامر ولكن في تكتم، ويحب أن ينتهب من الملذات كل ما تصل إليه يده، ولكن على أن يكون مطمئنا. كيف ركب هذا التركيب العجيب؟ لست أدري ولا يهمني أن أدري، ولكن هو كذلك، لا يحب القلق ولا يحب أن يتسرب إلى نفسه شيء مما يثير الشكوك، أمطمئن هو لزوجته؟ إني أعلم أنه يحاول أن يطمئن نفسه ما وسعه الجهد؛ فهو يبث حولها العيون الرواصد، وهو يمنعها من الزيارات، وهي لا تلتقي برجل إلا الأغوات، لالا ألماظ ولالا بشير. أعرف كليهما. كانا لا يحسنان في الدنيا شيئا؛ فلا هما من النساء حتى أكلفهما بما يكلف به النساء من الخدم، ولا هما من الرجال حتى أعتمد عليهما فيما يقوم به الخدم من الرجال، ولكنني كنت أحب كلا منهما؛ فهما يحفظان الكثير من الحكايات، وهما يستطيعان دائما أن ينقلا إلي أخبار السيدات الأخريات، أتستطيع نازك أن تكتفي بما يرويه لها لالا ألماظ ولالا بشير؟ إنها امرأة تحب أن يعجب بها الرجال، ولا يمكن أن يعجب بها الرجال وهي في خدرها لا ترى إلى الناس ولا يرى الناس إليها. ولكنها قادرة، تستطيع أن تصنع ما تشاء، استطاعت أن تتزوج نامق وليس هذا بالأمر اليسير، ما كان نامق ليتزوج امرأة اتصل بها إلا إذا وقع تحت طائلة إرهاب شديد.
Halaman tidak diketahui