ولما انتهت المذاكرة نهض الأمير أحمد ونهض الشيخان لنهوضه، فودعوا وركبوا خيولهم، وساروا؛ الأمير أحمد إلى بيت عمه، والشيخان إلى بيتيهما؛ لأنهما كانا قد شتيا في بيروت تلك السنة هما وكثيرون من مشايخ الجبل على خلاف العادة، وكان لا بد لهم من المرور تجاه بيت الشيخ درويش أبي فخر، وكأنه كان جاسوسا عليهم يرقب حركاتهم وسكناتهم فوقف في باب بيته وسلم عليهم، وطلب منهم أن ينزلوا ويشربوا فنجان قهوة، فاعتذروا إليه بضيق الوقت وبقرب آذان الظهر، فمسك بلجام فرس الأمير أحمد وقال: علي الطلاق إن لم تنزلوا وتشربوا فنجان قهوة. فاضطروا أن ينزلوا، فأدخلهم بيته وأجلسهم حيث أجلس الأمير ونادى بالقهوة، وجعل يقص عليهم ما سمعه من الوالي من المدح والثناء على الأمير أحمد وذكائه، قال: وقلت لدولته إن الأمير أحمد ابن أبيه، وأبوه كان صديقي، والصداقة قديمة بيننا، أنتم الآن آتون من عند قنصل الإنكليز، لا بأس؛ فإن الإنكليز أصدقاء لدولتنا العلية هم والفرنسوي حالفوها على حرب المسكوب، ولكن يرى لي أن السياسة انقلبت اليوم؛ فإن أفندينا الوالي ما عاد يركن إلى قنصل الإنكليز، لم يقل لي ذلك صريحا ولكنني فهمت منه، أنا ألقطها طائرة! ونحن ما لنا وللقنصل ولكل الإفرنج ما دام دولتنا في الوجود، ما هو رأي القنصل؟! قل لي يا أمير أحمد، الظاهر أنك لا تستخلصني كما كان يستخلصني المرحوم والدك.
فقال الأمير أحمد: ليس الأمر كذلك يا أبا فخر، ولكنك أنت عارف بكل شيء، والذي لا تعلمه بالسمع تستنتجه بذكاء عقلك.
فضحك أبو فخر وقال: هكذا كان المرحوم أبوك يقول عني، نحن أحباب من زمان طويل، وحضرة الشيخين معرفة مباركة إن شاء الله، تفضلوا خذوا القهوة، هذا بن حجازي يأتيني هدية كل سنة، لا مثيل له في كل بيروت ولا في الشام، وعندي جارية اشتريتها من جواري أسعد باشا كأنها مخلوقة لعمل القهوة فلا أطيب من قهوتها، وهي تدق البن في هاون خشب ولا تدقه في هاون نحاس لئلا يفسد طعمه - كل شيء صنعه - يقال إن قهوة البدو أطيب من غيرها، شربتها في السنة الماضية لما أتى الفضل إلى بلاد الحولة، ذهبت إلى هناك من قبل الوالي لبعض الأشغال، وكنت أشرب من قهوتهم فلا أراها أطيب من قهوة الجارية التي عندي، ماذا تقول يا حضرة الشيخ، هل شربت قهوة أطيب من هذه القهوة؟ والفناجين والظروف الأمير أحمد يعرف قصتها، زارني الوالي في رمضان لكي يشرب من هذه القهوة، ولما رأى الفناجين ابتهج لها، وإلى الآن يقول إنه ما شرب مثل القهوة التي شربها في بيت الشيخ درويش.
فقال أحد الشيخين: نعم القهوة كما وصفت يا حضرة الشيخ، ونحن مسرورون بهذه المعرفة الجديدة والفضل فيها لسعادة الأمير. وصادق الشيخ الآخر على كلامه ونهضوا، وبعد اللتيا والتي تمكنوا من وداعه وركبوا وساروا في طريقهم، والأمير أحمد يقول: لا بد لنا أن نجد طريقا آخر نمر به بعد الآن حتى نخلص من هذا الثقيل.
وسار الأمير أحمد إلى بيت عمه والشيخان إلى بيتيهما، وافترقوا على أن يجتمعوا في المساء في خلوة رأس بيروت، ويتداولوا فيما يجب عليهم عمله في الأحوال الحاضرة.
الفصل السادس عشر
استفحال الخطب
أرى خلل الرماد وميض جمر
ويوشك أن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين تذكى
Halaman tidak diketahui