فتجمهر جماعة ونظروا إلى راية منصوبة في مقدم الحراقة فقالوا: «إنها راية المأمون.» وقال أحدهم: «دعونا منها.» ثم ما لبثوا أن مروا بها مسرعين، فسري عن ميمونة لزوال الخطر عنها، ولكنها أصبحت في قلق عظيم على حبيبها، ورجح عندها أنهم يجدون في طلبه، فالتفتت إلى جدتها والدمع يترقرق في عينيها وقالت: «إنهم يطلبون بهزاد؟ ويلاه!» قالت ذلك وقد نسيت أنها تكتم حبها عن جدتها.
فقالت عبادة وقد حملت خوفها محملا آخر: «لا تخافي يا حبيبتي، لا أظنهم يطلبونه. وعلى كل حال سنسبقهم إليه وننبهه.»
ونهضت إلى صاحب الدفة وأمرته أن ينشر الشراع في أثر تلك الحراقة، ففعل وسارت الحراقة ساعة أخرى وميمونة واقفة حائرة لا تدري ما تعمل، فابتدرتها جدتها قائلة: «لا تخافي يا بنية، إننا سنصل إلى بهزاد قبلهم وإن سبقونا بحراقتهم، وأسرعت إلى مقدم السفينة وجعلت تتفرس في الشاطئ على اليسار وتنظر إلى أبعد ما يقع عليه بصرها في عرض الأفق، وميمونة واقفة إلى جانبها تستند إلى كتفها خوفا من السقوط والسفينة تشق الماء والريح تنقر على الشراع، فسارت الحراقتان ساعتين متقاربتين وعبادة واقفة وبصرها شاخص إلى الأفق حتى أشرفت على بناء شامخ تراءى لها عن بعد فصاحت: «هذا هو الإيوان. إننا على مقربة من المدائن.»
ثم تحولت إلى الربان وقالت: «أترى هذه الناعورة (الساقية) أمامك؟»
قال: «نعم، أراها يا مولاتي.»
قالت: «قف بالحراقة عندها.» ثم التفتت إلى ميمونة وهمست في أذنها قائلة: «إذا نزلنا من هنا ويممنا منزل بهزاد وصلنا إليه قبل أولئك بوقت طويل!»
فحلوا الشراع وأدار الربان الدفة، وبعد هنيهة رست بهم الحراقة عند الساقية، فأمسكت عبادة يد ميمونة ونزلتا إلى الشاطئ وقالت عبادة للربان: «امكث هنا حتى نعود إليك.» فقال: «ألا يسير أحد منا في خدمتكما؟»
قالت: «كلا.» فقال: «سمعا وطاعة.»
وهرولت عبادة مسرعة وميمونة تعدو في أثرها، وقد مالت الشمس نحو المغيب، وعبادة تعرف الطريق جيدا وتعرف حناياها ومختصراتها، فسارتا على هذه الصورة نصف ساعة، فتعبت العجوز وكادت تخور قواها وتسقط، وميمونة تركض لا تبالي من شدة لهفتها، ناسية ضعف جدتها وشيخوختها. فما لبثت أن رأتها تلهث من التعب والعرق يتصبب من جبينها وأنفها وسالفيها ولم تعد تقوى على السير، فوقفت ثم قعدت على حجر وأخذت تمسح عرقها وتلهث؛ فاستاءت ميمونة من قعودها وودت لو كانت لها أجنحة لتطير بها إلى منزل بهزاد. وتحيرت فلم تدر أتترك جدتها هناك وتسير وحدها وهي لا تعرف الطريق ولا يطاوعها قلبها على ترك جدتها وحدها في ذلك المكان؟ أم تصبر ريثما تستريح فتضيع الفرصة؟ فجعلت تمسح لها عرقها وتنشطها وتخفف عنها، وعبادة لا تستطيع الكلام من شدة التعب. وبعد بضع دقائق قالت: «إننا على مقربة من البيت. ألا ترين هذه النخلة الباسقة؟»
وكانت الشمس قد توارت بين النخيل على الشاطئ الغربي وراءهما، فنظرت ميمونة شرقا نحو الأفق فرأت تلك النخلة فصاحت: «أليست هي النخلة التي ألفنا الاستظلال بها عندما كنا نخرج من منزلنا؟»
Halaman tidak diketahui