وكان المأمون وهو ببغداد أثناء ولاية العهد حتى سنة 192ه قد أسكن فيه الفضل بن سهل وأخاه الحسن، ولهذين الرجلين شأن في تاريخه. فلما طلب الرشيد خراسان لمحاربة رافع بن الليث فيما وراء النهر، وكان قد ثار على الدولة وعجز العمال والقواد عن إذلاله، حمل الرشيد عليه بنفسه واستخلف على بغداد ابنه الأمين واليا عليها، وأمر المأمون أن يبقى فيها وكان قد أوصى له بخراسان يتولاها بعد موته.
وكان الفضل بن سهل فارسيا من سرخس، ذا مطامع في السلطان، وفي نفسه نقمة على الرشيد لغدره بجعفر البرمكي، كما نقم عليه سائر رجال الفرس وأجمعوا أمرهم فيما بينهم على الأخذ بالثأر؛ فتوجهت آمالهم إلى المأمون لأن أمه فارسية وقد شب في حجر جعفر البرمكي على الميل إلى الشيعة العلوية وهي جامعة الفرس. وكان يحيى أبو جعفر قد اختار الفضل بن سهل لخدمة المأمون، وكان مجوسيا فأسلم على يده طمعا في نصرة الفرس، وكان المأمون يجله ويقدمه.
فلما أزمع الرشيد الخروج إلى خراسان في تلك السنة وطلب إلى المأمون البقاء في بغداد، خاف الفضل أن يموت الرشيد في الطريق فيذهب سعيه سدى؛ فجاء إلى المأمون وقال: «لست تدري ما يحدث للرشيد، وخراسان ولايتك، ومحمد الأمين مقدم عليك في ولاية العهد. وأخشى أن يخلعك وهو ابن زبيدة وأخواله بنو هاشم، وزبيدة وأموالها كما تعلم، فاطلب إلى أمير المؤمنين أن تسير معه.» فطلب المأمون ذلك من أبيه فامتنع أولا ثم قبل، وذهب الفضل وأخوه الحسن معهما، وخلف المأمون بعض أهله في ذلك القصر ومعهم الخدم والعبيد وعليهم قيم يتولى شئون بيت المأمون وأمواله وضياعه.
وكان القصر المأموني نفسه على شاطئ دجلة الشرقي، تشرف واجهته على النهر ولها شرفات ورواشن، وفي قاعات القصر أنواع الفرش المذهبة والنمارق المقصبة المحمولة من الأنحاء البعيدة، وقد زخرفت أبوابه بالستائر وملئت خزائنه بأنواع الطرف مع ما تحتاج إليه القصور من الجواري والخدم والخصيان، وهم يعدون يومئذ من أدوات المنزل التي لا بد منها.
وكان للقصر مما يلي دجلة مسناة من رخام ترسو عندها السفن يعدون إليها من الماء بدرجات من الرخام عريضة يحدها من الجانبين جدران من أساطين غليظة (درابزون) يظهر مما عليها من النقوش الفارسية أنها كانت لبعض الأبنية الكسروية وحملت إلى هناك، والمسناة عريضة تمتد من حافة الشاطئ إلى سور القصر عند بابه الغربي. وعند الباب ردهة فسيحة ربما فرشوها بالطنافس ونصبوا في جوانبها المقاعد للجلوس إذا أرادوا مشاهدة مجرى دجلة وفيه السفن تمر صاعدة أو نازلة.
وكان المأمون قد خلف في القصر ابنته زينب لما سافر مع أبيه في ذلك العام، وتكنى أم حبيبة، وهي يومئذ في الثانية عشرة من العمر، وكانت مثل أبيها ذكاء ونباهة واستقلالا في الفكر، ومثل جدها الرشيد أنفة وتعصبا لبني هاشم، وكانت مع صغر سنها قوية الإرادة مستبدة برأيها، وقد عرف أبوها ذلك فيها، وهو لا يريد تلك العصبية لرغبته في اصطناع الفرس؛ فعهد في تربيتها إلى الجارية التي ربته هو، وأصلها من جواري البرامكة في إبان مجدها، واسمها دنانير. وذلك أن المأمون لما جعل في حجر جعفر عهد هذا في تربيته إلى تلك الجارية وأوحى إليها أن تنشئه على حب الفرس، فنشأ المأمون على ذراعيها وشب يحترمها ويراعي جانبها. ولما ترعرع أخذها إليه وجعلها في جملة جواريه. فلما رزق بابنته عهد إليها في تربيتها وأوصاها بأن تعودها حرية الفكر وحب الفرس، فبذلت جهدها في ذلك. وكان الرشيد مولعا بحفيدته هذه وهو الذي سماها زينب وكناها أم حبيبة، وكثيرا ما كان يستقدمها إليه في ساعات الفراغ ويداعبها ويهديها العقود والأساور، فكانت تشهد مجالسه الخاصة مع امرأته زبيدة، وهي كثيرة المفاخرة بنسبها الهاشمي، فكانت زينب تسمع ما يدور بينهما من إعظام بني هاشم فيغرس ذلك في ذهنها عفوا، فنشأت شديدة التعصب لهم رغم ما كانت دنانير تحاوله على خلاف ذلك. على أن زينب كانت تحب مربيتها وتحترمها وترتاح إلى حديثها، ولم تكن تكتمها أمرا يخالج ضميرها.
زينب ودنانير
كانت زينب سريعة النمو جسما وعقلا، يحسبها الناظر إليها تناهز السادسة عشرة وهي لم تدرك الثانية عشرة. وكانت صبيحة الوجه سوداء العينين براقتهما، صغيرة الأنف غائرة الشفتين بارزة الذقن، يدل مبسمها على الثبات ورباطة الجأش وقوة العزيمة، وعيناها تدلان على الذكاء وسرعة الخاطر. وكانت دنانير قد ربتها على سذاجة المعيشة، ونزهتها عما كانت الرغبة منصرفة إليه يومئذ من التبرج والبذخ؛ فكانت تقضي النهار وليس عليها من الثياب إلا رداء ساذج وقد ضفرت شعرها ضفيرة واحدة ترسلها على ظهرها.
أما دنانير فنشأت في منزل يحيى بن خالد البرمكي، وكانت صفراء صادقة الملاحة، أصلها لرجل من أهل البصرة خرجها وأدبها ورواها الشعر، ثم اتصلت بيحيى البرمكي وهي فتاة فربيت في منزله. وهي غير دنانير المغنية التي اشتهرت بالغناء وحفظ الشعر. أما هذه فكانت ميالة إلى المسائل العقلية. وكان مجلس يحيى لا يخلو من بحث أو مناظرة في علم أو أدب، وكذلك كان سائر البرامكة؛ فإنهم أول من نشط العلم في العصر العباسي. ولما هم يحيى بترجمة المجسطي إلى العربية استقدم المترجمين إليه، وكانت دنانير تسترق الاجتماع بهم، وكثيرا ما كانوا يرونها مصغية لتستمع ما يتذاكرون فيه من المسائل الفلكية وأحكام النجوم في أثناء الترجمة، ورفيقاتها الجواري يضحكن منها ويعيرنها برغبتها في علوم هي من قبيل الرموز الغامضة التي لا يقدم على حلها إلا قهارمة العلم من أهل الذمة. وكانت المسائل الفلسفية حديثة العهد يومئذ في العربية؛ إذ لم يكن قد ترجم منها غير علم النجوم وبعض كتب الطب في زمن المنصور والمهدي والرشيد. على أنها كانت تلم بتلك المسائل قبل نقلها إلى العربية مما يدور بين جلساء يحيى، واشتهرت بين جواري البرامكة بحب العلم والتعقل؛ ولذلك لما صار المأمون في حجر جعفر وعهد في تربيته إليها، كانت وهي تلاعبه في الحديقة تحمل معها قرطاسا أو ورقا عليه رسوم فلكية أو مسائل طبية تراجعها، وأول ما فتح عينيه وصار في سن الاستغراب والاستفهام لم يكن يسألها عن شيء إلا فسرته له بتعقل. ثم أخذت في تلقينه المسائل على قدر ما يتحمله سنه. لم تكن تفعل ذلك رغبة في تعليمه، بل تلذذا بالعلم؛ فإن محب العلم يلتذ بإلقاء الحقائق كما يلتذ بتلقيها.
ولما ترعرع المأمون وآن تسليمه إلى المعلمين، كان قد تولد فيه الميل إلى البحث عن الأسباب والتماس البرهان على كل شيء؛ فجره ذلك إلى الاعتزال والتشيع والرغبة في العلم والفلسفة حتى كان ما كان من نقله كتب الأقدمين على ما هو مشهور.
Halaman tidak diketahui