فأدركت زبيدة أنها تعرض بما تخافه عليها من النكبة، فكرهت أن تسمع شيئا يكدرها إذا هي أطالت الحديث معها، فوقفت وأخذت تتشاغل بإصلاح عقدها والعصابة التي حول رأسها كأنها تتأهب للخروج؛ فاكتفت عبادة بما قالته وتحولت وخرجت إلى قصر المأمون.
الفضل بن سهل
فلنترك أهل بغداد على ما هم عليه لنرى ما كان من أمر بهزاد بعد رحيله؛ فقد ذكر في كتابه إلى ميمونة أنه مسافر إلى خراسان، وأنه أوصى سلمان بما عليه أن يصنعه في أثناء غيابه. فغادر بغداد على فرسه وقد شد ذلك الصندوق إلى السرج، وسلك أقرب الطرق، وكان إذا بات في خان أو نزل به ادعى أنه طبيب معه صندوق العقاقير. وبعد أيام قطع في أثنائها جبالا وسهولا وأودية وأنهارا، أشرف على مدينة «مرو الشاهجان» عاصمة خراسان في ذلك العهد، وهي في منبسط من الأرض، حولها سور مربع الشكل، وفي وسطها قلعة ضخمة يقال لها في اصطلاحهم «القهندز»، تظهر للمطل على مرو من بعيد فيحسبها بلدا، وكانوا يغرسون على سطحها الأشجار والمباقل كأنها بستان على رأس جبل. ولم يكن ذلك المنظر ليثير بهزاد؛ فإنه نشأ في هذه المدينة وشب فيها، فدخل توا يلتمس منزل الفضل بن سهل.
وكان الفضل بن سهل من سرخس، وقد نشأ مجوسيا ودرس علم النجوم ثم أدخله يحيى البرمكي في خدمة الدولة في أيام الرشيد ولم يسلم إلا سنة 190ه على مذهب الشيعة. وإنما أسلم رغبة في نصرة الفرس بخراسان. وتعهده يحيى برعايته حتى صار من خاصته ثم جعله قهرمانا له. ثم توسم الفضل في المأمون نجابة وتعقلا فتوقع أن تصير الخلافة إليه فلزمه وخدمه وتقرب منه. وكان المأمون يجله ويقدمه؛ فأصبح الفضل لا يطمع في أقل من الوزارة.
ويحكى أن مؤدب المأمون قبل الخلافة لما رأى جميل رأيه في الفضل وإكرامه إياه نقل ذلك إلى الفضل وقال له: «لا أستبعد أن يحصل لك منه ألف ألف درهم.» فاغتاظ الفضل وقال: «والله ما صحبته لأكتسب منه مالا قل أو جل، ولكني صحبته ليمضي حكم خاتمي هذا في الشرق والغرب!»
وكان الرشيد لما بايع لولديه بولاية العهد جعل للأمين العراق والشام إلى آخر المغرب على أن يكون الخليفة بعده، وجعل للمأمون خراسان وسائر المشرق على أن يتولى الخلافة بعد أخيه الأمين. وكل ذلك بتدبير جعفر وغيره من أحزاب الشيعة، وفي جملتهم الفضل بن سهل. ولما أراد الرشيد سنة 192ه أن يسير إلى خراسان، أمر ابنه المأمون أن يبقى في بغداد حتى يعود. وكان الرشيد مريضا فخاف الفضل أن يموت الرشيد في الطريق فيذهب سعيه سدى؛ فجاء إلى المأمون وقال له: «لست تدري ما يحدث للرشيد، وخراسان ولايتك، ومحمد الأمين مقدم عليك، وليس مستبعدا أن يخلعك وهو ابن زبيدة وأخواله بنو هاشم، وزبيدة وأموالها كما تعلم؛ فاطلب إلى أمير المؤمنين أن تسير معه.» فطلب المأمون ذلك من أبيه فامتنع أولا ثم أجاب. فسار المأمون مع أبيه ومعهما الفضل، وكان اهتمام الفضل منصرفا أثناء الطريق إلى تأييد أمر المأمون، فأخذ له البيعة على كل من في عسكر الرشيد من القواد وغيرهم، وأقر له الرشيد بجميع ما معه من الأموال. ثم نزل المأمون «مرو» قصبة خراسان، واشتد المرض على الرشيد وهو في «طوس» والأمين في بغداد وله عيون مع الرشيد أشدهم غيرة عليه الفضل بن الربيع وزير الرشيد بعد البرامكة. فلما بلغ الأمين اشتداد المرض على أبيه بعث إلى ابن الربيع وغيره يحثهم على بيعته. فلما مات الرشيد هناك سنة 193ه، احتال ابن الربيع على من كان في ذلك العسكر وحرضهم على اللحاق بالأمين فأطاعوه رغبة في الرجوع إلى أهلهم في بغداد، وأغفلوا العهود التي أخذت عليهم للمأمون، وحملوا ما كان في عسكر الرشيد إلى الأمين وتمت له البيعة.
فلما بلغ المأمون موت أبيه ورجوع رجاله إلى أخيه بالأحمال والأموال وقد نكثوا عهده، خاف على نفسه فجمع خاصته بمرو وشاورهم في الأمر مظهرا لهم ضعفه وأنه لا يقوى على أخيه، فنشطوه ووعدوه خيرا. ولبث الفضل يترقب الفرص لنيل بغيته التي أسلم لأجلها. وكان من جملة مساعيه قبل موت الرشيد أنه أنفذ بهزاد طبيبا إلى بيت المأمون، ومعه سلمان خادما له وهو من رجال الخرمية أيضا. وكانت المراسلات السرية دائرة بين بهزاد والفضل، فلما مات الرشيد واستأثر الأمين بالخلافة وآن العمل في خراسان ركب بهزاد إليها ليكون مع الفضل.
وكان الفضل يوم وصول بهزاد إلى مرو جالسا في قصره مع أخيه الحسن، فجاءه الحاجب بأن بهزاد بالباب فأمر بإدخاله، فدخل وهو لا يزال بلباس السفر وفي يده الصندوق، فوضعه بالباب وسلم، فرحب به الفضل والحسن وأجلساه في صدر القاعة. وكان الفضل صفراوي المزاج رقيق البدن أصفر الوجه مع صحة ونشاط، وهو يومئذ في حدود الكهولة إذا نظرت إلى عينيه رأيتهما تنطقان بما في صدره من المطامع وما يضمره من المكايد وما يفكر في نصبه من الحبائل بهدوء ورباطة جأش. ولم يكن أخوه الحسن في مثل مزاجه ودهائه وكان أقرب إلى إظهار ما في نفسه وتجلي أغراضه في وجهه. فلما جلس بهزاد أخذ الفضل وأخوه يسألانه عما وراءه، فقص عليهما ما جرى؛ فأعجبا بشجاعته وغيرته، ثم سأله الفضل رأيه في حزب الخرمية ببغداد فأجابه بقوله: «إنهم على دعوتنا لا يدخرون في سبيلها مالا ولا نفسا.»
قال: «وكيف فارقت ذلك الغلام؟» يريد محمدا الأمين.
قال: «فارقته بين الكأس والطاس والجواري والغلمان.»
Halaman tidak diketahui