فبينا أنا كذلك إذ أنا بعبد المطلب وجمته تضرب منكبيه، ينادي بأعلى صوته: يا معاشر الرضع هل بقي فيكن أحد، قالت: فقصدت قصده، فقالت: أنعم صباحا أيها الملك المنادي، قال: من أنت؟، قالت: أنا امرأة من بني سعد، قال: ما اسمك؟ قالت: قلت: حليمة، فضحك عبد المطلب، فزمجر وقال: بخ بخ سعد وحلم، هاتان خلتان فيهما غناء الدهر وعز الأبد، ويحك يا حليمة إن عندي غلاما صغيرا يتيما يقال له: محمد، وإني قد عرضته على جميع نساء بني سعد، فأبين أن يقبلنه ويقلن: إنه يتيم، وما عند اليتيم من خير، إنما نلتمس كرامة الآباء فهل لك أن ترضعيه لعلك أن تسعدي به، قلت: حتى أستأمر صاحبي فتعلق بي فقال: بالله لترجعن لا كارهة، قالت:قلت: الله لأرجعن لا كارهة، فانطلقت إلى صاحبي فأخبرته بذلك، فكأن الله تعالى قذف في قلبه فرحا، وقال: ويحك خذيه فإن فاتك محمد لا تفلحين أبد الآبدين ودهر الداهرين، قالت: فأردت والله ألا أرجع وذلك أنه كان معي ابن أخت لي فقال لي: يا خالة ترجع نساء بني سعد بالرضاع والكرم من الآباء وإنك ترجعين أنت بيتيم لئن أخذتيه لا تزيدي على نفسك إلا جهدا وضرا، قالت: فأردت ألا أرجع فأدركتني الحمية وعصبية العرب والجاهلية، فقلت: ترجع نساء قومي برضاع وأرجع خائبة، والله لآخذنه وإن كان يتيما، فهذا عبد المطلب جده لم أر في الآدميين أجمل حالا منه و[إنه رؤياي الذي رئيتها في المنام وتصدقها في اليقظة لا يذهب باطلا أبدا قالت: فرجعت إليه وهو قاعد فقلت: هلم الصبي فاستهل وجهه فرحا وقال: يا حليمة وقد نشطت لأخذه، قالت: قلت: نعم، قالت: فانطلق بين يدي يهرول ونحن خلفه حتى أدخلني إلى بيت آمنة أم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-]، قالت: فإذا هي امرأة هلالية بدرية، وكأن الكوكب الدري معصوب بأسارير جبهتها، فقالت: أهلا وسهلا بك يا حليمة، ثم أخذت بيدي فأدخلتني بيتا فيه محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- فإذا أنا به مدرج في ثوب صوف أبيض أشد بياضا من اللبن يفوح من نسج هذا الصوف الذي عليه ريح كريح المسك الأذفر وتحته حريرة خضراء وهو راقد يغط في النوم على حلاوة القفا.
Halaman 66