خرجتُ من منازلنا بسويقة جنح ليل، وذلك قبل خروج محمد أخي، فإذا أنا بنسوة توهمتُ أنهنَّ خرجنَ من دارنا، فأدركتني الغيرة، فاتَّبعتهن لأنظر حيث يُردن حتى إذا كان بطرف الجميز، التفتت إحداهن وهي تقول " من الوافر ":
سُويقةُ بعد ساكنها يبابُ ... لقد أمستْ أجدَّ بها الخرابُ
فقلت لهنَّ: أمن الإنس أنتنَّ؟ فلم يراجعنني.
فخرج محمد بعد هذا، فقُتل وخُرِّبت ديارنا.
وبالإسناد عن إسماعيل " الإسناد السابق ". قال: لقيني موسى بن عبد الله، فقال: هلمَّ حتى أُريك ما صُنع بنا بسويقة، فانطلقت معه، فإذا بنخلها قد عُضد عن آخره، ومصانعها قد خُرِّبت، فخنقتني العَبْرَةُ، فقال: إليك، فنحن والله، كما قال دريد بن الصِّمَّة " من الطويل ":
تقول ألا تبكي أخاكَ وقد أرى ... مكان البُكا لكن جُبلتُ على الصَّبرِ
وقال سعيد بن عُقبة: نزلتُ ببطحاء سويقة، فاستوحشتُ لخرابها، إلى أن خرجت ضَبعٌ من دار عبد الله بن حسن، فقلتُ " من البسيط ":
إني مررتُ على دارٍ فأحزَنَني ... لمَّا مررتُ عليها منظرُ الدارِ
وحشًا خرابًا كأنْ لم تَغْنَ عامرةً ... بخير أهلٍ لمُعْتَرٍّ وزُوَّارِ
لا يُبعدِ الله قومًا كان يجمعهم ... جَنبا سُويقةَ أخيارًا لأخيارِ
الرَّافعينَ لساري الليلِ نارَهُم ... حتى يؤُم على ضوءٍ من النارِ
والرَّافعين عن المحتاجِ خَلَّتَهُ ... حتى يجوز الغنى من بعد إقتارِ
حدثنا محمد بن يحيى الصُّولي، ثنا يموت بن المزرَّع، قال: سمعت أبا حاتم السجستاني، يقول كان رجل يحبُّ الكلام ويختلف إلى حسين النجار، وكان ثقيلًا متشادقًا، لا يدري ما يقول؛ فآذى حسينًا، ثم فطن له، فكان يُعدُّ له الجواب من جنس السؤال، فينقطع ويسكت.
فقال له يومًا: ما تقول " أسعدك الله " في جدٍّ يلاشي التوهيمات في عنفوان القرب من دَرْك المطالب؟ فقال له حسين: هذا من وجود فَوت الكيفوية عن غير طريق الحسُّوبيَّة، وبمثله يقع إلينا في المجانسة على غير تلاق ولا افتراق.
فقال الرجل: هذا محتاج إلى فكر واستخراج.
فقال حسين: افتكر، فإنَّا قد استرحنا.
حدثنا محمد بن إبراهيم الحكيمي، قال: أخبرنا يموت بن المزرَّع، قال: كنت آتي أبا إسحاق الزيادي، إذ مرَّت به أمة سوداء شوهاء، فقال لها: يا عُنيزة: أسمعيني:
مَرَّ بالبينِ غرابٌ فَنَعَبْ
فقالت: لا والله. أو تهب لي قطعة.
فأخرج صُريرة من جيبه فناولها قطعة، رأيتُ أن فيها ثلاث حبَّات، فوضعت الجرَّة على ظهرها، وقعدت عليها، ثم رفعت عقيرتها " من الرمل ":
مَرَّ بالبين غرابٌ فنعبْ ... ليتَ ذا التاعبَ بالبين كذبْ
فَلَحاك الله من طيرٍ فقد ... كنت لو شئتَ غنيًّا أن تُسَبْ
قال أبو بكر: فأحسنت.
قال الخرائطي: حدثنا يموت بن المزرَّع، حدثنا محمد بن حميد، حدثنا محمد بن سلمة، حدثني أبي، قال: أتيت عبد العزيز بن المطلب أسأله عن بيعة الجنِّ للنبيّ ﷺ بمسجد الأحزاب ما كان بدؤها، فوجدته مستلقيًا يتغنَّى:
فما روضةٌ بالحَزْنِ طيِّبةُ الثرى ... يمجُّ النَّدى جثجاثُها وعرارُها
بأطيبَ من أردانِ عَزَّةَ مَوهنًا ... قد أوقدت بالنمدلِ الرَّطبِ نارُها
من الخَفِراتِ البيضِ لم تلقَ شِقوةً ... وبالحسب المكنونِ صافٍ نِجَارُها
فإن برزَتْ كانت لعينيكَ قُرَّةً ... وإن غبتَ عنها لم يَعُمَّكَ عارُها
فقلتُ له: أتغنّي أصلحك الله وأنت في جلالك وشرفك؟ فقال: أما والله لأُحمِّلنَّها ركبان نجد، فقال: فوالله ما اكترث بي، وعاد يغنّي:
فما أدماءُ خفَّاقةُ الحشا ... تجوبُ بظِلفيها متونَ الخمائلِ
بأحسن منها إذ تقولُ تَدَلُّلًا ... وأدمُعُها تذرينَ حشوَ المكاحلِ
تمتّع بذا اليومِ القصيرِ فإنَّهُ ... رهينٌ بأيامِ الصُّدودِ الأطاولِ
قال: فندمت على قولي، وقلتُ له: أصلحك الله أتحدثني في هذا بشيء؟ قال: نعم، حدثني أبي قال: دخلتُ على سالم بن عبد الله بن عمر ﵃ وأشعب يغنِّيه:
1 / 13