ونتيجة أخرى لا تخلو من روعة يصل إليها جان بول سارتر، وهو أن الأدب حر فلا يمكن أن يتجه إلى العبيد، وآية ذلك أن القارئ لا يقرأ إلا عن حرية، وإذا ذكرنا القارئ الحر فإنما نريد القارئ بأدق معاني هذه الكلمة، القارئ الذي يتعمد القراءة ويتعمد الفهم، ويتعمد إذاعة ما قرأ وما فهم، ومن هنا يقول جان بول سارتر: إن الديمقراطية هي أشد النظم ملاءمة للأدب.
وهذا الكلام قد يكون صحيحا، ولكن بشرط أن نتوسع في معنى الديمقراطية شيئا ما، وأن نتجاوز بها حدودها السياسية التي ترسم لها في كتب السياسة والقانون؛ فقد كان عصر بيركليس ديمقراطيا، ولكن عصر أغسطس والرشيد ولويس الرابع عشر لم تكن عصورا ديمقراطية وقد ازدهر فيها الأدب ازدهارا عظيما.
وربما كانت كلمة الحرية هنا أشد ملاءمة من كلمة الديمقراطية، فهؤلاء الملوك المتسلطون المستبدون كانوا يتسلطون ويستبدون في حدود لا يكادون يتجاوزونها، وكانوا يتركون للعقول والقلوب والألسنة حرية لعلها لا تقل عما تستمتع به الآن.
والفكرة التي يرمي إليها جان بول سارتر هي أن الأدب والدكتاتورية لا يتفقان؛ لأن الدكتاتورية لا تعرف حدودا للتسلط والاستبداد، وإنما تتدخل في كل شيء، وتفرض نفسها على كل شيء، وتريد أن تنظم كل شيء، فتهدر بذلك حرية الأفراد والجماعات إهدارا.
وبعد فكل هذه الخصائص التي صورها جان بول سارتر للإنتاج الأدبي، والتي يبين لنا بها لماذا نكتب، ليست مقصورة على النثر من دون الشعر، وليست مقصورة على الأدب من دون الفنون الرفيعة كلها، وإنما هي شائعة بين هذه الفنون جميعا؛ فإذا كان من شأنها أن تفرض على الكتاب أن يلتزموا ويحتملوا التبعات، فمن شأنها أن تفرض على الشعراء والموسيقيين والمصورين والمثالين وغيرهم من أصحاب الفن الرفيع كائنا ما يكون الفن، أن يلتزموا ويحتملوا التبعات.
وربما كان وجه الحق في هذه القضية هو أن لكل شيء موضعه، وأن كل صاحب فن ملتزم محتمل تبعاته أمام الفن أولا ، وأمام الذوق العام ثانيا، ثم أمام طوائف بعينها من الناس إذا كان من شأن موضوعه أن يلزمه ويحمله التبعات أمام هذه الطوائف من الناس.
فالأديب الذي يعرض للسياسة ملتزم أمام فنه الأدبي وأمام مذهبه السياسي، وقل مثل ذلك في الأديب الذي يعرض لشئون الاجتماع، ولم يحظر أحد على أديب ولا على صاحب فن أن يعالج من الموضوعات ما لا يلزمه إلا أمام الفن والذوق وحدهما.
وقد أعود إلى هذا الموضوع بعد أن أتم قراءة ما كتب جان بول سارتر عن القسم الثالث من دراسته، وهو: «لمن نكتب؟»
إجازة
لا أريد تلك الإجازة التي كان القدماء من علمائنا يهدونها إلى تلاميذهم؛ فتكون إذنا لهم بأن ينقلوا عنهم هذا الكتاب أو ذاك، مما نقلوا من غيرهم أو أنشأوا من عند أنفسهم، والتي ظل المحافظون من علمائنا يتلقونها من أساتذتهم، ويهدونها إلى تلاميذهم، ولا سيما فيما يتصل بالحديث، يكتبونها نثرا في أكثر الأحيان، ويتأنقون فينظمونها شعرا بين حين وحين.
Halaman tidak diketahui