وإذن فالأدب حرية كله، حرية حين ينشئه الكاتب، وحرية حين يتم القارئ إنشاءه، وهذه الحرية الفاعلة تتخذ الانفعال وسيلة إلى الفعل، وتتخذ التأثر والخضوع وسيلة إلى الإنشاء والتأثير؛ فالكاتب متأثر، وتأثره هذا وسيلة إلى تأثيره، والقارئ متأثر وتأثره هذا وسيلة إلى تأثيره أيضا.
وأنا معتذر إلى القارئ العربي مما قد يكون في هذا الكلام من الغموض، ومن ترديد ألفاظ بعينها أكثر مما ينبغي، ولكني أحب أن يلاحظ القارئ أني ألخص له دراسة لجان بول سارتر أديب الوجوديين الفرنسيين، وصاحب كتاب «الكون والعدم».
وهناك شيء لم يقف عنده جان بول سارتر، مع أنه خليق بالعناية، وهو أن الكاتب واحد، وأن قراءه كثيرون يختلفون فيما بينهم اختلافا شديدا في الأمزجة والطباع والاستعداد والذوق والثقافة، وينشأ من ذلك اختلافهم في تقدير الأشياء والحكم عليها.
وهؤلاء القراء يعاصرون الكاتب دائما، وقد يعيشون بعده أزمانا تقصر وتطول بمقدار ما يقدر لأثره من البقاء، وهم يختلفون حين يعاصرونه، ويختلفون بعد أن يموت، وكلما أتيح للأثر الفني الخلود عظم حظه من اختلاف القراء بالتأثر والحكم والتقدير.
وإذن فالكاتب لا ينشئ أثرا واحدا حين يؤلف كتابا واحدا، وإنما ينشئ آثارا لا تحصى، أو قل: آثارا بمقدار ما يتاح له من القراء.
وواضح جدا أن قصة من قصص شكسبير تترك في نفوس القراء آثارا تتفق في جملتها، ولكنها تختلف في تفصيلها اختلافا لا سبيل إلى ضبطه، وواضح جدا أن هذا التمثال اليوناني قد ترك في نفوس اليونان أنفسهم آثارا متباينة، وترك في نفوس المحدثين آثارا تختلف باختلاف القرون.
فالكاتب إذن ينشئ ولكنه يدعو الأجيال المختلفة إلى الإنشاء، ومن هنا تظهر قيمة الالتزام الذي يدعو إليه جان بول سارتر؛ فيجب على الكاتب أن يقدر عمله ونتائجه، وأن يحتمل تبعات هذا العمل وهذه النتائج، والكاتب مدفوع إلى الكتابة بحريته التي تدفعه إلى شيء من الكرم والجود والتنزه عن الأثرة والبخل.
والقارئ مدفوع إلى القراءة لحاجته إلى أن يتلقى أولا وإلى أن يعطي ثانيا، وإذن فالتبعة الأدبية ليست مقصورة على الكاتب وحده، ولكنها شركة بينه وبين قرائه.
وهنا يصل جان بول سارتر إلى نتيجة لا تخلو من روعة، وهي أن الأدب ما دام مصدره الحرية والإيثار واحتمال التبعات، فلا يمكن أن يكون شرا ولا أن يدعو إلى الشر مهما تكن مادته وموضوعه؛ ذلك أن الحرية خير والإيثار خير، وما يصدر عن الخير يجب أن يكون خيرا آخر الأمر.
فما يسميه الغربيون أدبا أسود لا حظ له في حقيقة الأمر من السواد؛ لأن منتج هذا الأدب إنما رأى شرا فأراد إصلاحه، وقارئ هذا الأدب إنما رأى ابتداء الإصلاح فأراد إتمامه.
Halaman tidak diketahui