ومن يدري! لعل من الخير أن تظل هذه المشكلات غامضة ملتوية لا سبيل إلى حلها؛ فأقل ما لهذا الغموض من المزايا أنه أنتج لنا هذه المحاولات الرائعة، وأتاح لنا هذه الآداب الرفيعة التي نفزع إليها كلما ضقنا بالحياة أو ضاقت بنا الحياة، ونفزع إليها كلما غرتنا الأماني وكادت الآمال تخدعنا عن أنفسنا، وكاد رقي الحضارة يورطنا في البطر والأشر.
فنحن محتاجون إلى أن نسعى، وإلى أن نتقدم مبطئين ومسرعين، ولكنا في الوقت نفسه محتاجون إلى عاصم يعصمنا من الغرور، ويمسكنا أن نندفع في إيماننا بأنفسنا إلى غير حد، ولست أدري إلى أي تهور تندفع الإنسانية، لو أنها وجدت لهذه المشكلات حلولا نهائية مقنعة يطمئن إليها الناس جميعا.
أكبر الظن أن الإنسانية إن أتيحت لها هذه الحلول فستضطر إلى حياة راكدة خامدة، لا طائل فيها ولا غناء. وما قيمة الحياة إذا خلت من الإشفاق والخوف، ومواجهة المشكلات ومحاولة التخلص منها، وإلقاء الأسئلة والتماس الأجوبة لها! وأي غناء في هذه الجماعات الحية الميتة التي وجدت لكل مشكلة حلا، ولكل سؤال جوابا، واطمأنت إلى حظ من العلم التقليدي المغلق الذي يتعرض للنقص ولا يتعرض للزيادة! والغريب أن التجارب تمر بالناس، وأن العصور تختلف عليهم، وأن الرقي يتاح لهم، وأنهم يظفرون بالتقدم بين حين وحين، ولكنهم على ذلك كله يقفون من الفلسفة المتشائمة مواقف متشابهة على ما بين الأجيال والعصور من الاختلاف.
فقد ضاق القدماء بتشاؤم أبيقور، واشتد نقدهم له ونعيهم عليه، وضاق المسلمون بتشاؤم أبي العلاء؛ فأكفره منهم من أكفره، ولا يزال كثير منهم إلى الآن يرى تشاؤمه شرا، ويخاف منه على نشاط الأفراد والجماعات، وقد تعرض المتشائمون الأوروبيون لمثل ما تعرض له أبيقور وأبو العلاء، فضاق بهم من ضاق وأنكرهم من أنكر، وخيف من تشاؤمهم على عقول الناس، وعلى نشاط الأفراد والجماعات، وعلى إيمان الشباب بالحياة، وما ينبغي أن يملأ قلوبهم من الأمل والثقة بالنفس.
ولعل الذي حملني على إملاء هذا الحديث الطويل إنما هو من جهة مظهر من مظاهر الفلسفة الحديثة في التشاؤم، ومظهر من مظاهر المقاومة لهذه الفلسفة من جهة أخرى؛ فقد يخيل إلي أن أوربا لم تشهد قط موجة تشاؤم كهذه الموجة التي كانت تلاعبها بعد الحرب العالمية الأولى، والتي طغت عليها طغيانا جارفا في هذه الأيام.
وهذا التشاؤم الأوروبي الحديث هو الذي أنتج ما يسميه الفرنسيون في هذه الأيام بالأدب الأسود، والحق أن هذا الأدب مختلف أشد الاختلاف، متنوع أشد التنوع، كما كان أدب أبي العلاء مختلفا متنوعا.
فقد عرض أبو العلاء علينا تشاؤمه شعرا ونثرا، وعرضه علينا فلسفة ووعظا، وعرضه علينا نقدا للسياسة والاجتماع، ونقدا للأخلاق والديانات، وعرضه علينا واقعا وخيالا، ومن يدري! لعله عرضه في ضروب أخرى من الفن لم تصل إلينا؛ لأنا لم نحفظ من أدب أبي العلاء إلا القليل.
والأدب الأوربي مختلف على هذا النحو، تراه يعرض فلسفة يسلك فيها طرق الفلاسفة، وتراه يعرض تمثيلا يشهده النظارة في الملاعب، وتراه يعرض قصصا منها الواضح الجلي، ومنها الغامض الرمزي، ومنها ما يكون بين ذلك فيه كثير من الوضوح وفيه كثير من الغموض.
وقد أنفقت أكثر الوقت الذي قضيته في باريس معاشرا لطائفة من هؤلاء الأدباء السود، لم ألق منهم أحدا، ولكني قرأت لهم كثيرا، ووجدت في قراءتهم اللذة العليا أحيانا، والضيق الشديد أحيانا أخرى، والاشمئزاز الذي تنقبض له النفس في كثير من الظروف، وقد تعودت والحمد لله بفضل أبي العلاء أن أعاشر المتشائمين، فلا أضيق بتشاؤمهم لأنه مظلم، أو لأنه يسيء رأي الناس في الحياة.
ولكن عند الكتاب الأوروبيين والأمريكيين لونا من التشاؤم بغيضا حقا لا أدري أيرفع الأدب أم يخفضه، وقد كدت أملي لا أدري أيتصل بالأدب أم يبعد عنه أشد البعد.
Halaman tidak diketahui