ووجد بينهم من خاصم الخلفاء وأنكر سيرتهم وأذاقهم معارضة مؤذية، ولقي منهم مقاومة مؤذية؛ فسعد بن عبادة ينفي نفسه من وطنه ويموت غريبا؛ لأنه يرى أن الجماعة لم تعدل حين جعلت الخلافة إلى المهاجرين، وأبو ذر يضطر إلى أن يعيش وقتا من حياته غريبا، وإلى أن يموت غريبا؛ لأنه ينكر سيرة عثمان وعماله في أموال المسلمين.
وكذلك عرف المسلمون منذ القرن الأول للهجرة المشكلتين الخطيرتين اللتين شقي بهما الإنسان دائما: مشكلة العدل الاجتماعي من جهة، ومشكلة الصلة بين الإنسان وبين القضاء والقدر من جهة أخرى. وظهر أثر هاتين المشكلتين في مقدار عظيم من الأدب الإسلامي، حتى أصبح من الممكن أن نقول: إن المسلمين قد عرفوا هذا الأدب الأسود قبل أن ينتصف القرن الأول للهجرة.
على أن هناك أدبا أسود آخر يستحق شيئا غير قليل من العناية؛ لأن مؤرخي الآداب العربية لم ينظروا إليه إلا هذه النظرة اليسيرة السريعة التي لا تحقق شيئا ولا تتعمق شيئا، فهذه الأزمة العنيفة التي ثارت بين الشعراء التقليديين في العراق، والتي أنتجت لنا هذا الهجاء الرائع المروع بين الفحول الثلاثة ومن شايعهم من الشعراء، ما مصدرها؟ وما غايتها؟ وما طبيعتها؟ أكانت لهوا سخيفا يرجع كما يقول المؤرخون إلى هذه الخصومات السخيفة بين حيين من أحياء تميم؟ أمن الحق أن الهجاء قد ثار بين الفرزدق وجرير لهذا السبب اليسير البسيط الذي يذكره المؤرخون؟ أمن الطبيعي أن تثار خصومة غير ذات خطر بين حيين من أحياء العرب في البادية؛ فتنشأ عنها هذه الأزمة الهجائية التي انتشرت في بادية العراق وأمصاره، كما تنتشر النار في الحطب الجزل، والتي فرضت نفسها على جميع البيئات العربية في جميع أقطار الدولة، ثم فرضت نفسها، وما زالت تفرض نفسها، على الأدب العربي كله إلى اليوم وإلى آخر الدهر؟
ألا يمكن أن يكون هذا الهجاء ظاهرة لما كان في الحياة العربية في ذلك الوقت من اضطراب خطير مصدره الانتقال من حياة جاهلية ساذجة إلى حياة إسلامية معقدة، ومصدره أيضا كل هذه المشكلات التي واجهها العرب حين أديل لهم من الفرس والروم، وفتحت عليهم أقطار الدنيا ، وأتيح لهم سلطان لم يكونوا يحلمون به، وثراء لم يكونوا يستطيعون أن يحققوه في أنفسهم، ثم نظروا فإذا هذا السلطان تحتكره قلة ضئيلة من دون سائر العرب على ما كان لبعض قبائلها وأحيائها من سابقة في الشرف والمجد.
ونظروا فإذا هذا الثراء الضخم يتاح لفريق دون فريق، وإذا جماعة منهم ينعمون حتى يبطرهم النعيم، وإذا جماعات أخرى منهم تحرم حتى يضطرهم الحرمان إلى البؤس والاستجداء، وإذا الحفيظة تملأ الصدور، وإذا الغيظ يستأثر بالنفوس، وإذا الحسد يفسد الصلات، وإذا التنافس يجعل بعض الأصدقاء لبعضهم عدوا، وإذا الحياة مظلمة يسبغ الحرمان عليها سوادا حالكا بالقياس إلى بعض الناس، ويسبغ الخوف عليها ظلمة قاتمة بالقياس إلى بعضها الآخر.
وإذا بعض الناس يتتبع مثالب بعض ويحصي عليهم السيئات، وإذا بعضهم الآخر يكيل لهم صاعا بصاع، وإذا الشر يشيع بين هذه الأحياء العربية؛ لأن الله أخرجهم بالإسلام من الظلمات إلى النور، ولكن الزمن لم يكد يتقدم حتى غشيتهم ظلمات جديدة من الفتن وما استتبعت من ظلم وعسف، ومن تنافس حول أعراض الحياة؟
وليس من الضروري أن يكون الشعراء، والذين كانوا يستمعون لهم حين ينشدون، محققين لهذه المعاني كلها في أنفسهم تحقيق الشاعر بها المسجل لها، وإنما يكفي أن تكون هذه الحقائق واقعة في نفسها مؤثرة في نفوس الناس؛ لتؤثر في نظرتهم إلى أنفسهم أولا، وفي نظرتهم إلى الناس ثانيا، وفي نظرتهم إلى الحياة كلها آخر الأمر. ولأمر ما يحرص العرب على أن يستقصي بعضهم مثالب بعض، وعلى أن يحصي بعضهم على بعض السيئات، وعلى أن يذكروا القديم ليحيوا منه ما يسوء الخصم ويسر الصديق، في نفس الوقت الذي بلغ فيه التنافس في السياسة والسلطان وفي المال والثراء أقصى غاياته وأبعد آماده.
والشيء المحقق هو أن الفرزدق حين يهجو جريرا بهذه الخصلة أو تلك من الخصال البغيضة، لا يريد شخص جرير وحده، وإنما ينصب جريرا مثلا لقومه أولا، ولجميع الذين يتصفون بهذه الخصلة من الناس بعد ذلك؛ فهو لا ينحو نحو الفرد، وإنما ينحو نحو الجماعة ونحو الجماعة في أوسع حدودها.
وتستطيع أن تقول مثل ذلك في جرير حين يهجو الفرزدق، وفي غير هذين الشاعرين من الهجائين في ذلك الوقت، فهجاؤهم نوع من النقد العام، ومن الاستقصاء لما كان في الأخلاق من نقص، ولما كان في النظام الاجتماعي من عيب، وليس أدل على ذلك من أن هذا الهجاء قد وجد صداه في النفوس العربية كلها، فتهالك العرب على روايته وحفظه، واختصموا في تقديره وفي تفضيل بعض الهجائين على بعض.
وعنيت السياسة العليا للدولة بهذا الهجاء، فآثر بعض الخلفاء وعمالهم جريرا، وآثر بعضهم الفرزدق، واستطاع عبد الملك أن يؤثر جريرا على الفرزدق، وأن يؤثر الأخطل على جرير، وليس لهذا كله معنى إلا أن تكون هناك صلة بين هذا الهجاء، وبين حقائق السياسة التي كانت تدبر في قصور الخلفاء والأمراء.
Halaman tidak diketahui