هنالك تضاءلت الصلة بين الأدب والحياة الواقعة العامة، وهنالك عكف الأدباء على أنفسهم وفرغوا لها، وجعلوا يبدئون ويعيدون فيما ورثوا من معاني القدماء، لا يجددون شيئا؛ لأنهم لم يكونوا يصنعون شيئا، فرغوا لأدب لا حياة فيه؛ لأنهم أنفسهم لم يكونوا يحيون، وإنما كانوا مضطرين إلى لون من الحياة يشبه الموت، فصوروا حياتهم كما استطاعوا أن يصوروها.
فالأدب العربي قد اتصل بالحياة العامة حين أتاحت الظروف للأدباء أن يشاركوا في هذه الحياة، وانفصل عن الحياة العامة حين اقتضت الظروف أن يتنحى الأدباء عن هذه الحياة، وربما كان هنالك مثل يبين ذلك في غير غموض ولا لبس، وهو هذا الذي نجده في القرن الأول حين كان الأدب العربي مزدهرا أشد الازدهار، وحين كانت الحياة السياسية قوية أعظم القوة، وحين اضطر فريق من أبناء المهاجرين والأنصار بحكم السياسة الأموية إلى الفراغ والعكوف على أنفسهم ولذاتهم.
هنالك اعتزل عمر بن أبي ربيعة، والعرجي، وابن أبي عتيق، وأمثالهم الشئون العامة، ولكنهم لم يعيشوا في بروجهم العاجية، وإنما عاشوا مع الناس في الحجاز؛ لأن الحجاز كله قد اضطر إلى اعتزال السياسة وتجنب الشئون العامة؛ فكان هؤلاء الأدباء يشاركون في الحياة الواقعة من حولهم؛ لأن هذه الحياة الواقعة كانت ابتعادا عن السياسة واعتزالا للشئون العامة وفراغا للنفس، وتهالكا على اللذات.
وهؤلاء الأدباء مع ذلك لم يحتملوا هذه العزلة راضين عنها محبين لها، وإنما احتملوها على كره منهم وتسلوا عنها بهذا الغزل الرفيع، وهل زاد العرجي على أن صور ألمه وألم أمثاله لهذه العزلة التي فرضت عليهم حين قال:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
ليوم كريهة وسداد ثغر
على أن العرجي وغيره من شعراء الحجاز في ذلك الوقت قد حاولوا الثورة على هذا الاعتزال الذي فرض عليهم، ولقوا في سبيل هذه الثورة ألوانا من العناء حفظها لنا التاريخ، والأمر لا يحتاج إلا إلى أن نفهم التاريخ على وجهه، وإلى أن نقيس حياة القدماء بحياة المحدثين.
فهناك مشكلة خطيرة هي التي أنشأت مسألة الاتصال بين الأدب والحياة الواقعة أو الانفصال عنها، وهي أن حياة القدماء وحياة المحدثين إلى وقت قريب، لم تكن تعتمد على الديمقراطية التي تعترف بحق الشعوب في الحرية والعدل والمساواة، وإنما كانت تحتفظ بهذا الحق لطبقة ممتازة من الناس، إليها وحدها السلطان، وإليها وحدها الثقافة، وإليها وحدها كل ما يكون الرجل الحر بالمعنى الدقيق، فأما كافة الشعب فكانت أداة مسخرة تجد وتكد وتشقى لتنعم هذه الطبقة الممتازة بالحكم والسلطان وبالأدب والفن وبالفلسفة والعلم.
فما عسى أن تكون الحياة الواقعة العامة بالقياس إلى الأجيال التي جرت أمورها على هذا النحو: أهي حياة الشعب الذي كان أداة مسخرة، أم هي حياة السادة الذين كانوا يستغلون هذه الحياة؟ هذه هي المشكلة التي خيلت إلى كثير من الناس أن الأدب كان معتزلا للحياة العامة، ولكن حقائق الأشياء تدل في غير لبس على أن الأدب لم يعتزل الحياة العامة قط، وإنما الشعوب هي التي أكرهت على اعتزال هذه الحياة العامة ونحيت عنها تنحية.
فالأدب اليوناني الذي كان ينشأ في أتينا إنما كان يحفل بحياة المواطنين الأتينيين، وهؤلاء المواطنون كانوا قلة ضئيلة بالقياس إلى سكان أتينا وما حولها من المدن والقرى.
Halaman tidak diketahui