ويشتد المرض والفقر بالفتاة، ويشتد الهيام والبؤس بالفيلسوف، وتزول بينهما الكلفة، وتكثر الزيارة عندها وعنده، ويعرض عليها خادمته لتعينها على الحياة، فتأبى، وتقضي الشتاء وحيدة عاملة لا يسليها عما تجد إلا زيارات الفيلسوف لها وعطفه عليها، وقد عرضها على الطبيب فقدر لها مرضا أخذ يعالجه وهو بعيد كل البعد عما كانت تجد، واشترك الفيلسوف في الأوبرا على فقره ليسلي صاحبته بالموسيقى من حين إلى حين، ولكنه لم ينس الحب ولم يفكر في الإعراض عنه، فهو ما زال يلح على الفتاة ويتقاضاها هذه الصلة المادية التي تتوج ما بينهما من ائتلاف العقل والقلب وهي تأبى ، حتى إذا أثقل عليها فأسرف، كتبت إليه تذعن لما يريد، وهي تقول: إنك تطالب بأجر ما تبذل لي من ود ومعونة فلن أماطل في تأدية هذا الأجر. هنالك استحى الفيلسوف واستكبر فرفض هذا التسليم وأبى إلا صلة مصدرها الحب والرغبة.
وزارته ذات يوم وهي مكدودة قد أجهدها المرض، واشتدت بها الحمى فلما انتهت إلى البيت استلقت على وسادة ونظر إليها هو وإن في عينه لحبا لا حد له، وشهوة لا حد لها، وإذا هو يرى عينيها الزائغتين من الألم وخديها اللذين توردهما الحمى فلا يرى إلا جمالا مغريا وحسنا فتانا، وهي مستلقية أمامه لا حول لها ولا طول، وهو قادر عليها! ولكنه ليس قادرا على نفسه، فهو يشتهي إلى حد الهيام ولكن عقله ووقاره يأبيان عليه هذا الغصب، فتنحل هذه الشهوة الحادة العنيفة إلى حب وقور، فيه شيء كثير من جلال الدين، والمرض والبؤس يلحان على الفتاة، والحب والفقر يلحان على الفيلسوف وإذا هي قد لزمت غرفتها، ولزمتها خادم الفيلسوف، وجاء الطبيب فلم يشك في أنها مسلولة مشرفة على الموت، وكثر تردد أمها عليها وكثر تردد الفيلسوف أيضا، وكانت بين الأم والفيلسوف حول هذا الجسم الناحل وهذه النفس التي تتأهب لمفارقة الحياة، خصومات مؤلمة ولكنها لا تخلو من فكاهة، فأما الأم فكانت أسيرة الأوضاع الاجتماعية، أسيرة هذا الحب الذي يعطف المرأة على ابنتها، وأما الفيلسوف فكان أسير هذا الحب الفلسفي، ولم يكن يتردد في أن يعلن أنه وحده صاحب الأمر في هذا البيت لأنه الزوج الخالد للفتاة، ولم لا؟ لقد كان ينهض بكل ما تحتاج إليه، ويعرف من تمريضها ما ظهر وما خفي. لقد كتبت إليه مرة تقول: ما أشد حاجتك إلى الرحمة أيها العاشق التعس! فلم تظفر من خليلتك إلا بشر ما يظفر به الأزواج، وكان مؤلما جدا، وباعثا للابتسام أحيانا أن يرى الفيلسوف جاثيا أمام السرير وهو يصلي إلى الفتاة فيدعوها أخته وزوجه وابنته، ويؤكد لها ويقسم ليعصمنها من الموت، ولئن عبثت الطبيعة بجسمها فليضمنن هو لنفسها الخلود ، ولم لا؟ أليست أرقى امرأة عرفتها الإنسانية؟! لقد لقيت أرقى عقل عرفته الإنسانية، فلن يكون للفناء عليك ولا علي سلطان.
وساءت حال الفتاة، ودعي القسيس ليهيئها لاستقبال الموت، فلم تمانع هي ولم يمانع هو، وأقبل القسيس فأدى عمله والفيلسوف يراه ويسمع له ساخطا حتى إذا انصرف أقبل فأنكر هذه العادة الدينية التي تنتزع المريض انتزاعا من الحياة لتدفعه بين ذراعي الموت.
أقبل عذب الصوت، رضي النفس، حنون القلب، فجثا إلى السرير وحنى على الفتاة، وأخذ يحدثها أحاديث عذبة كلها أمل وكلها رحمة، ثم انصرف وعاد فإذا الأسرة كلها مجتمعة وإذا هم يأبون عليه أن يصل إلى المريضة، فتثور ثائرته ويخرج عن طوره ويأبى أن ينصرف، ويهم بإخراجهم جميعا لأن المريضة زوجه وخليلته وهي له وحده دونهم، بذلك اعترفت له وعلى ذلك أقسمت له، فيجب أن يخلى بينه وبينها، فأما الأم فتنكر وتبكي وتستخذي، وأما الأخ فيقبل على أستاذه منذرا، وأما الأب الشيخ فيقبل هادئا وقورا، هنا يطلب إلى الفيلسوف أن يدع المريضة لأهلها.
فانظر إلى الفيلسوف وقد جثا أمام الشيخ ضارعا مستعطفا حتى رق له الشيخ فقال: انصرف الآن ولك علينا أن ندعوك إذا استيئسنا منها. خرج الفيلسوف فلزم داره، فلما كان من غد جاءه الرسول فأقبل مسرعا حتى انتهى إلى البيت، فلما رأته الأسرة انفرجت له وخلت بينه وبين غرفة الفتاة، فدخل وأغلق الباب من دونه وأرتجه فأحكم إرتاجه، وأقام ساعات طوالا لا يخرج ولا يدخل عليه أحد، ويستطيع الخيال أن يذهب كل مذهب في تصور ما قال الفيلسوف للفتاة المحتضرة أو ما عمل أمام هذا الحب العظيم الذي كان الموت يغلبه عليه قليلا قليلا، فلما تقدم النهار ودنا المساء فتح الباب وخرج صامتا لا يلوي على شيء، فأقام في داره ولم يشهد الجنازة ولم يشيعها إلى القبر، وماذا يعنيه من الجنازة؟ لقد حاول أن يصل إلى هذا الجسم فلم يجد إليه سبيلا، وحاول أن يصل إلى هذه النفس فلم تقاومه ولم تمتنع عليه، وإنما أسرعت إليه فأقامت في عقله وقلبه. لم تمت كلوتيلد وإنما أودعته خير ما فيها فهي إذن في قلبه، هي إذن تقاسمه حياته الزائلة حتى إذا انقضت هذه الحياة الموقوتة امتزجت بنفسه فكانت منها نفس واحدة خالدة. عكف الفيلسوف في داره على هذه الصورة يعبدها ويهيم بها، وما هي إلا أن استحال حبه لكلوتيلد دينا وضعت له التقاليد وألوان الصلوات والعبادات، وأغرب من هذا كله أن الحياة الظاهرة للفيلسوف لم تتغير، فدروسه كانت تلقى في نظام ومجلاته كانت تقرأ في نظام ورسائله كانت تقرأ ويرد عليها في نظام أيضا.
ما أعجب أمر الإنسان! تراه ساذجا يسيرا وإن شخصه لشديد التعقيد.
ثورتان
كانت إحداهما في إيطاليا أثناء القرن الأول قبل المسيح، وكانت الثانية في العراق أثناء القرن الثالث للهجرة، وقد عرضت أولاهما الجمهورية الرومانية كلها لخطر عظيم، وعرضت ثانيتهما الخلافة الإسلامية كلها لخطر عظيم، وقد كانت لكل واحدة منهما أعقاب كثيرة خطيرة ظهرت آثارها فيما بعد، كما كانت لكل واحدة منهما خصائص أظهرت أبطالا من المختصمين يستحقون الدرس والبحث، ويستوجبون العناية، ويدعون إلى كثير من التفكير.
فأما أولاهما فهي ثورة الرقيق في إيطاليا، تلك التي قادها سبرتاكوس، وأما ثانيتهما فهي ثورة الزنج في البصرة، تلك التي قادها عبد الله بن محمد المعروف بصاحب الزنج.
وقد يسأل القارئ فيم تعرضي لهذا الموضوع وقد ذهب الرق وانتهت أيام الأرقاء، وليس في حياة الناس الآن ما يدعو إلى التفكير في مثل هذا الموضوع والعناية به، وأحب أن ألاحظ قبل كل شيء أن من الجائز أن يكون الرق الفردي قد ذهب وانقضى عصره، وإن كنت لا أثق بذلك ولا أطمئن إليه، ولكن الرق الاجتماعي لم يذهب بعد ولم ينقض عصره، ولست أدري متى يذهب ومتى تنقضي أيامه، فهناك شعوب تسترق شعوبا، وهناك طبقات من الناس تسترق طبقات من الناس، ومع ذلك، فأنا لم أختر هذا الموضوع لأتحدث عن استرقاق الشعوب واستغلال طبقات الناس لطبقات الناس، وإنما اخترت هذا الموضوع لسبب آخر سيعرفه القارئ بعد حين، وأحب أن ألاحظ بعد ذلك أن ثورة الزنج في البصرة لم تكن في حقيقة الأمر بدعا من حياة المسلمين؛ فقد عرف المسلمون قبل أن ينتصف القرن الأول للهجرة سخط الساخطين على النظام السياسي والاجتماعي، وثورة الثائرين بالنظام السياسي والاجتماعي، ولقيت دولة بني أمية كما لقيت دولة بني العباس من طلاب العدل السياسي والاجتماعي ألوانا من العناء يعرفها الذين يدرسون تاريخ الخوارج، ويتتبعون تطور مذاهبهم منذ كانت نظرية التحكيم، فليست ثورة الزنج، في حقيقة الأمر إلا مظهرا من مظاهر المطالبة بالعدل الاجتماعي، قد اعتمد على مذهب الخوارج أكثر مما اعتمد على أي شيء آخر، ويكفي أن نلاحظ أن صاحب الزنج قد كتب على رايته بالخضرة والحمرة الآية الكريمة:
Halaman tidak diketahui