فواضح أن نشر هذه الرسائل يؤيد سياسة أوكتاف ويؤلب الناس على أنطوان، وقد نشرت هذه الرسائل بالضبط في الوقت الذي كان الخصمان فيه يتهيآن للحرب التي انتصر فيها أوكتاف.
وهنا تثار مسألتان خطيرتان؛ إحداهما: تتصل بالتاريخ قبل كل شيء، وهي إلى أي حد يمكن الاطمئنان إلى هذه النظرية التي تجعل إذاعة هذه الرسائل مظهرا من مظاهر نشر الدعوة السياسية؟ والجواب عن هذا السؤال يسير ولكنه رائع حقا؛ فقد أظهر الأستاذ كاركوبينو أن السياسة الدكتاتورية في عهد قيصر وابنه أوكتاف، لم تكن أقل مهارة ولا براعة ولا افتنانا في نشر الدعوة من سياسة الدكتاتورية في العصر الحديث؛ فقد ابتكر قيصر لأول مرة في التاريخ، إنشاء الصحيفة اليومية التي تعلن في روما وتذاع في إيطاليا، وترسل إلى الحكام في الأقاليم، ويقرأ الناس فيها الحوادث التي تجد في كل يوم.
وبهذه الطريقة ابتكر قيصر السيطرة على العقول من طريق القراءة، ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما ابتكر قيصر كذلك البلاغات الرسمية التي تعلن إلى الناس أنباء الحرب كما تحب الحكومة أن تعلنها.
ثم ابتكر الرقابة على ما يقرأ الناس من الكتب في المكاتب العامة، فلم يكن يسمح لكتاب أن يعرض للقراءة إلا إذا أقره السلطان وأذن بقراءته ورضي عما فيه، وليس أدل على أن رسائل سيسرون إنما نشرت لإذاعة الدعوة من أن ردود أتيكوس عليها لم تنشر، ومن أن أتيكوس قد ظفر بالحظوة كل الحظوة عند أوكتاف، حتى أصبح صهرا للأسرة الإمبراطورية، ومن أن ماركوس بن سيسرون قد ظفر بالأمن بعد أن كان طريدا أهدر دمه، ثم ظفر بالحظوة عند أوكتاف، حتى بلغ المناصب الرفيعة في الدولة، واستمتع بحياة لاهية مترفة كان يحب الفراغ لها أيام أبيه.
أما المسألة الثانية: فهي إلى أي حد يمكن الاطمئنان إلى أن أتيكوس قد خان صديقه بعد موته على هذا النحو البشع، وإلى أن ماركوس قد خان أباه بعد موته على هذا النحو البشع أيضا؟ فأما أتيكوس فقد رأيت أن مذهبه في الأخلاق كان يعفيه من إثم هذه الخيانة؛ فقد كان سيسرون صديقه حين كان حيا يرتجي نفعه ويتقي شره، فأما بعد أن مات، فقد دخل في العدم المطلق الذي لا يرتجى من أهله خير، ولا يتقى منهم شر.
وليس على أتيكوس بأس أمام مذهبه الخلقي من أن يخون ميتا ليخدم حيا، هو المستأثر بالسلطان الذي يملك النفع كل النفع والضر كل الضر، ويتحكم في حياة الأحياء.
وأما ماركوس فقد كان منذ شبابه الأول صاحب مجون ولهو وفراغ، فهو ضعيف الطبع قصير الهمة، وهو بعد مدين بحياته لأوكتاف، فكيف إذا أضاف أوكتاف إلى حياته شيئا غير قليل من الشرف والترف والجاه؟!
والناس بعد ذلك هم الناس، في أكثرهم الضعف والخور والتهالك والأثرة، وغير هذا كله من الخصال التي تغري بالمكر والغدر، وتدفع إلى الخيانة والإثم، وتورط في أشياء كثيرة تأباها الأخلاق المكتوبة التي يقررها الفلاسفة ويدعو إليها المصلحون، وتجيزها السيرة العاملة، تجاهر بها أحيانا، وتخافت بها أحيانا أخرى، وتلتمس لها دائما ما يقبل وما لا يقبل من التعلات والمعاذير.
أما أنا فقد أنفقت في قراءة هذا الكتاب أسابيع، ووجدت في هذه القراءة فنونا من الأدب والسياسة والتاريخ وفلسفة الأخلاق، ولم تثر هذه القراءة في نفسي شماتة بسيسرون ولا رحمة له ولا إشفاقا عليه؛ فما يضر الموتى أن يشمت بهم الشامتون، ولا ينفعهم أن يشفق عليهم المشفقون، وقد كان سيسرون رجلا من معاصريه، فيه ما في معاصريه من خصال الخير والشر، امتاز من معاصريه بتفوق عقله وقلبه ولسانه، وفرض من أجل ذلك نفسه على الإنسانية كلها إلى آخر الدهر.
والمثقفون يقرءون أطرافا من حياة قيصر وابنه أوكتاف، ثم لا يلبثون أن ينسوا ما قرءوا، ولكن المدارس والجامعات ستكون عقول الصبية والشباب بأدب سيسرون، وليس المهم أن يكون سيسرون رجلا خيرا أو شريرا، وإنما المهم أن يكون سيسرون قد ترك من الآثار ما ينفع الناس.
Halaman tidak diketahui