138

هذه الصلات التي توثقت بين أوكتاف عظيم السياسة الرومانية، وأتيكوس عظيم المال الروماني، هي التي دفعت أتيكوس إلى نشر الرسائل الخاصة التي كتبها سيسرون، والتي اتخذها الأستاذ جيروم كاكوبينو موضوعا لكتابه، واستخرج منها الصورة الجديدة لسيسرون، فأثارت ما أثارت من الرضا والسخط ومن الوفاق والخلاف.

والفكرة الأساسية لهذا الكتاب، وهي التي لم يلتفت إليها النقاد الأدباء لأنها تعني العلم أكثر مما تعني الأدب، هي أولا أن رسائل سيسرون إنما نشرت في عهد أوكتاف قبل أن ينفرد بالحكم، وأثناء التنافس الشديد بينه وبين أنطوان، وأنها نشرت بواسطة أتيكوس، وصدرت عن داره تلك التي أشرنا إليها منذ حين، ونشرت على دفعتين؛ إحداهما: بين سنة خمس وثلاثين واثنتين وثلاثين قبل المسيح، وهي تشتمل على الرسائل الخاصة التي كتبها سيسرون لأتيكوس.

والثانية: سنة اثنتين وثلاثين قبل المسيح، وهي تشتمل على الرسائل الخاصة التي كتبها سيسرون إلى ابنه وأخيه وصديقه بروتوس ونفر آخرين من الأصدقاء.

فأما الجزء الأول من هذه الرسائل، فقد نشر دفاعا عن أوكتاف وأنطوان اللذين قتلا سيسرون. وأما الجزء الثاني فقد نشر مبالغة في إذاعة الدعوة لأوكتاف حين اشتدت الخصومة والمنافسة بينه وبين أنطوان.

وكان سيسرون ضحية لنشر الجزأين جميعا، فهو نشر قصد به إلى السياسة لا إلى الأدب، وإلى الغض من سيسرون لا إلى التنويه بذكره والإحسان إليه، قصد بالجزء الأول إلى إظهار ما امتلأت به حياة سيسرون من الاضطراب الشديد الذي يتصل بالسياسة، ويتصل بالمال، ويتصل بالأخلاق، ليتبين الناس أن الذين قتلوا سيسرون لم يقتلوا فيلسوفا مصلحا عظيما ممتازا في خلقه وسيرته ورأيه، وإنما قتلوا سياسيا متقلبا مسرفا في التقلب، أنفق حياته كلها ملتمسا لمنفعته الخاصة القريبة الحقيرة، مخادعا للناس عن نفسه وعن آرائه وعن سيرته.

فهو يزعم أنه أنقذ الجمهورية حين كان رئيسا لها من خطر الثورة، مع أن كتبه الخاصة تعترف عليه بأنه كان صديقا لكاتلينا زعيم الثورة، ولم يهاجمه إلا حين عجز عن أن ينتفع به.

وهو يزعم أنه كان نصيرا للنظام الجمهوري حين ظهر يوليوس قيصر، ولكن كتبه الخاصة تعترف عليه بأنه تقرب إلى قيصر حتى ظفر منه بالعطف والعفو والأمن، وظل يتملقه ما استقامت له الأمور، فلما قتل شمت بقتله وابتهج لموته، وظاهر قاتليه.

وهو يزعم أنه نصير للنظام الجمهوري بعد مقتل قيصر، ولكن كتبه الخاصة تعترف عليه بأنه تملق أنطوان ما وسعه التملق، وتملق أوكتاف ما وجد إلى تملقه سبيلا؛ فإذا كان أوكتاف وأنطوان قد قتلاه لأنه تنكر لهما قبل ائتلافهما، فهما لم يزيدا على أن قتلا خصما سياسيا كاد لهما وألب عليهما، وجد في حربهما بعد أن كان لهما صديقا يبتغي إلى مودتهما الوسائل.

فحبه للنظام الجمهوري كذب إذن؛ لأنه لم يحب إلا نفسه ولم يبتغ إلا منفعته، وأخلاقه لم تكن ذات خطر؛ فقد كان شرها إلى المال، تعترف عليه كتبه بأنه ارتشى من قيصر أولا ومن غير قيصر ثانيا، وبأنه ملك في روما وخارج روما ثماني عشرة دارا، من تلك الدور الفخمة التي كان الأغنياء الرومانيون يملكونها، وكانت قيمة تلك الدور نحو عشرين مليونا من الدراخمات.

وكان مسرفا شديد الإسراف، يدفعه الإسراف إلى الإعسار أحيانا، ويدفعه الإعسار إلى التماس المال من غير وجهه، فهو يطلق امرأته التي عاشت معه خمسة وثلاثين عاما، وولدت له ابنه ماركوس وابنته توليا؛ لسبب واحد وهي أن امرأته لم تمكنه من ثروتها حين احتاج إلى هذه الثروة، فيطلقها، ويتزوج - وقد قارب الستين - فتاة في العشرين من عمرها لا لشيء إلا لثروتها، وهو يدفع ابنته إلى الزواج والطلاق ثلاث مرات للمال وحده، حتى تموت البائسة حزنا.

Halaman tidak diketahui