134

وقد ظهر هذا الكتاب في أوائل هذا العام، فتلقاه النقاد أحسن لقاء، وقدموه إلى القراء تقديما مختلفا؛ فمنهم من قدمه تقديما فيه شيء من دعابة وعبث، ومنهم من قدمه تقديما فيه شيء من غضب وغيظ، ولكن الكتاب أرفع مكانة من عبث العابثين، وغضب الغاضبين؛ لأنه آية من آيات البحث العلمي الرفيع بأدق معاني هذه الكلمة وأعمقها وأوسعها في وقت واحد.

فأما الذين قدموا الكتاب في شيء من دعابة، فهم النقاد الأدباء الذين ورثوا عن الأجيال هذه الصورة التقليدية لسيسرون، وأقاموا حياتهم الثقافية عليها، وشقوا أثناء التعلم والطلب بما كان الأساتذة يفرضون عليهم من ترجمة النصوص التي تركها هذا الكاتب العظيم.

فهؤلاء قد نشأوا على أن سيسرون هو الصورة الصادقة للجد الذي ليس بعده جد، والحزم الذي ليس بعده حزم، والارتفاع عن صغائر الأمور، والتنزه عما يشين رجل الصدق.

وهو الذي تولى منصب القضاء الأعلى في الجمهورية، فكان أنزه القضاة وأعفهم وأكرمهم وأحرصهم على العدل وأشدهم توخيا للإنصاف، وتولى رياسة الجمهورية، فكان حازما صارما، بعيد النظر نافذ البصيرة، سديد الرأي، منقذا للوطن من شر عظيم.

وتولى الحكم في أحد الأقاليم، فكان مثالا ممتازا للنزاهة والعدل والصرامة، والضرب على أيدي الذين يستغلون أهل الأقاليم ويستذلونهم ويتخذون أموالهم معونة بينهم، كما كان عمر بن الخطاب رحمه الله يقول.

واشتغل بين ذلك كله بالمحاماة، فكان أفصح المحامين لسانا، وأرفعهم بيانا، وأمضاهم حجة، وأبعدهم عما يجانب كرامة المحاماة، وأرحمهم للضعيف، وأرأفهم بالمظلوم، وكان إلى هذا كله أستاذا ممتازا من أساتذة البيان، وفيلسوفا موفقا، وحكيما مهذبا، معتدل الرأي، معتدل السيرة، معتدل المزاج.

وقد امتحنت الجمهورية الرومانية بدكتاتورية قيصر، وطغيان أنطوان، واستبداد أوكتاف، فقاوم الدكتاتورية والطغيان والاستبداد بيده ولسانه وقلبه، ولقي حتفه في هذه المقاومة حين ائتلف الطاغيتان أنطوان وأوكتاف، وأهدرت بهذا الائتلاف دماء كثير من أعلام الجمهورية وأنصار النظام الموروث.

هذه هي الصورة التي توارثتها الأجيال عن سيسرون منذ ألفي عام، والتي نشأ عليها الأدباء والمعلمون والمتعلمون والمؤرخون، فلما ظهر هذا الكتاب، وعرض على الناس صورة مخالفة لهذه الصورة كل المخالفة، لم يملك بعض النقاد نفسه، فتلقى الكتاب وقدمه إلى الناس في دعابة شامتة أو شماتة مداعبة.

وكتب الأستاذ إميل هنريو عضو المجمع اللغوي الفرنسي، في جريدة «الموند» يظهر شماتته هذه المتفكهة المداعبة، بهذا الكاتب العظيم الذي أشقى الشباب وما زال يشقيهم بنصوصه العسيرة، وأشقى الناس وما زال يشقيهم بسيرته القاسية الصارمة، وجده المروع البشع.

ثم هو يظهر الآن بفضل هذا الكتاب رجلا من الناس، فيه ما في الناس من ضعف، وفيه ما فيهم من عيوب، وأما العلماء والمؤرخون منهم خاصة، فقد ضاقوا بهذه الصورة التي تغض من هذا الرجل الذي توارثت الأجيال رفعته وامتيازه.

Halaman tidak diketahui