القيامة الصغرى
القيامة الصغرى
Penerbit
دار النفائس للنشر والتوزيع،الأردن،مكتبة الفلاح
Nombor Edisi
الرابعة
Tahun Penerbitan
١٤١١ هـ - ١٩٩١ م
Lokasi Penerbit
الكويت
Genre-genre
الباب الأول القيامة الصغرى
تعريف وبيَان
يطلق على المرحلة التي يمر بها الإنسان بعد هذه الحياة الدنيا عدة أسماء، منها: القيامة الصغرى، والبرزخ، والموت.
وسنعرض لهذه الأسماء الثلاثة بشيء من التفصيل فيما يأتي:
المبحث الأول
تعريف القيامة الصغرى
القيامة الصغرى هي الموت، فكل من مات فقد قامت قيامته، وحان حينه، ففي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة قالت: كان رجل من الأعراب جفاة يأتون النبي ﷺ فيسألونه متى الساعة، فكان ينظر إلى أصغرهم فيقول: " إن يعش هذا، لا يدركه الهرم حتى تقوم عليكم ساعتكم " (١) .
قال ابن كثير: " والمراد انخرام قرنهم، ودخولهم في عالم الآخرة، فإن من مات فقد دخل في حكم الآخرة، وبعض الناس يقول: من مات فقد قامت قيامته، وهذا الكلام بهذا المعنى صحيح " (٢) .
وقد أشار ابن كثير إلى أن هذا القول يقوله الفلاسفة، ويريدون به معنى
_________
(١) البخاري: ٦٥١١. ومسلم: ٢٩٥٢. واللفظ للبخاري.
(٢) البداية والنهاية لابن كثير: (١/٢٤) .
1 / 11
فاسدًا. فإن الملاحدة يريدون أن الموت هو القيامة ولا قيامة بعدها. يقول ابن كثير: " وقد يقول هذا بعض الملاحدة، ويشيرون به إلى شيء آخر من الباطل، فأمّا الساعة العظمى، وهي وقت اجتماع الأولين والآخرين في صعيد واحد، فهذا ما استأثر الله بعلم وقته " (١) .
وتسمى القيامة الصغرى أيضًا بالمعاد الأول، كما تسمى البرزخ.
يقول ابن القيم: " الموت بعث ومعاد أول " فإن الله جعل لابن آدم معادين وبعثين يجزي فيهما الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
فالبعث الأول: مفارقة الروح للبدن، ومصيرها إلى دار الجزاء الأول " (٢) .
_________
(١) المصدر السابق.
(٢) الروح، لابن القيم: ص١٠٣.
1 / 12
البرزَخ
البرزخ في كلام العرب الحاجز بين الشيئين، قال تعالى: (وجعل بينهما برزخًا) [الفرقان: ٥٣]، أي: حاجزًا والبرزخ في الشريعة: الدار التي تعقب الموت إلى البعث. قال تعالى: (وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون: ١٠٠] . قال مجاهد: هو ما بين الموت والبعث، وقيل للشعبي: مات فلان، ليس هو في دار الدنيا، ولا في الآخرة (١) .
وقال ابن القيم: " عذاب القبر ونعيمه اسمه لعذاب البرزخ ونعيمه، وهو ما بين الدنيا والآخرة، قال تعالى: (وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون: ١٠٠] . وهذا البرزخ يشرف أهله فيه على الدنيا والآخرة ".
_________
(١) تذكرة القرطبي: ١٧٧.
1 / 13
الموت
المطلب الأول
الموت في اللغة والاصطلاح
الحياة والموت متناقضان تناقض النور والظلام والبرودة والحرارة، ولذا فإن معاجم اللغة العربية تُعرِّف كل واحد منهما بأنه نقيض الآخر، ففي تعريف الحياة تقول: " الحياة نقيض الموت، والحيّ من كلِّ شيء: نقيض الميت، والجمع أحياء " (١)، وفي تعريف الموت تقول: " الموت والمَوَتَان ضد الحياة " (٢)، وأصل الموت في لغة العرب: السكون، وكل ما سكن فقد مات (٣)، فتراهم يقولون: " ماتت النار موتًا: إذا برد رمادها، فلم يبق من الجمر شيء، ومات الحر والبرد إذا باخ، وماتت الريح: ركدت وسكنت، وماتت الخمر: سكن غليانها، والموت ما لا روح فيه " (٤) .
وإذا كان السكون أصل الموت في لغتنا، فإن الحركة أصل الحياة، ففي لسان العرب: " الحي كل متكلم ناطق، والحي من النبات ما كان طريًا يهتز " (٥)، والحياة الإنسانية تتحقق بنفخ الروح في جسد الجنين في رحم أمِّه، والموت: " انقطاع تعلق الروح بالبدن، ومفارقته وحيلولة بينهما، وتبدل حال، وانتقال من دار إلى دار " (٦) .
_________
(١) لسان العرب، لابن منظور: (١/٧٧٤) .
(٢) لسان العرب: (٣/٥٤٧) .
(٣) لسان العرب: (٣/٥٤٧) .
(٤) لسان العرب: (٣/٥٤٧) .
(٥) لسان العرب: (١/٧٧٣) .
(٦) التذكرة للقرطبي: ٤.
1 / 14
المطلب الثاني
الوفاة الكبرى والوفاة الصغرى
النوم شبيه الموت، ولذلك يسميه علماؤنا بالوفاة الصغرى، فالنوم وفاة، والقيام من النوم بعث ونشور (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) [الأنعام: ٦٠] وفي النوم تقبض أرواح العباد، ومن شاء الحق أن يمسك روحه في حال نومه أمسكها، ومن شاء بقاءها ردها إلى الأجل الذي حدده الحق، قال تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) [الزمر: ٤٢] . " فقد أخبر الحق أن كلا من النفسين الممسكة والمرسلة توفيتا وفاة النوم، وأمّا التي توفيت وفاة الموت فتلك قسم ثالث، وهي التي قدمها بقوله: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) [الزمر: ٤٢] .. فإن الله ذكر توفيتين: توفي الموت، وتوفي النوم، وذكر إمساك المتوفاة وإرسال الأخرى.
ومعلوم أنه يمسك كل ميتة سواء ماتت في النوم أو قبل ذلك، ويرسل من لم تمت، وقوله: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) [الزمر: ٤٢] يتناول ما ماتت في اليقظة وما ماتت في النوم، فلما ذكر التوفيتين ذكر أنه يمسكها في إحدى التوفيتين ويرسلها في الأخرى، وهذا ظاهر اللفظ بلا تكلف " (١) .
_________
(١) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: (٥/٤٥٢) .
1 / 15
المطلب الثالث
الموت حتم لازم
الموت حتم لازم لا مناص منه لكل حي من المخلوقات، كما قال تعالى: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص: ٨٨]، وقال: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ - وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن: ٢٦-٢٧] . وقال: (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: ١٨٥] .
ولو نجا أحد من الموت لنجا منه خيرة الله من خلقه محمد ﷺ: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) [الزمر: ٣٠]، وقد واسى الله رسوله بأن الموت سنته في خلقه (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ) [الأنبياء: ٣٤] .
والموت حق على الإنس والجن، ففي الصحيح عن ابن عباس ﵄ أن النبي ﷺ كان يقول: " أعوذ بعزتك الذي لا إله إلا أنت الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون " (١) .
_________
(١) رواه البخاري في كتاب التوحيد: (٧٣٨٣) .
1 / 16
المطلب الرابع
للموت أجل محدد
للموت وقت يأتي فيه، فلا يستطيع أحد أن يتجاوز الأجل الذي ضربه الله، وقد قدر الله آجال العباد، وجرى بذلك القلم في اللوح المحفوظ، وكتبته الملائكة الكرام والمرء في بطن أمه، فلا يتأخر المرء عما كتب له ولا يتقدم، وكل إنسان مات أو قتل أو غرق أو سقط من طائرة أو سيارة أو احترق أو غير ذلك من الأسباب، فإنه قد مات بأجله الذي قدره الله وأمضاه، وقد دلت على ذلك نصوص كثيرة، قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلًا) [آل عمران: ١٤٥]، وقال: (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) [النساء: ٧٧] .
وقال: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف: ٣٤] وقال: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ) [الجمعة: ٨] وقال: (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) [الواقعة: ٦٠] .
في صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قالت أم حبيبة زوج النبي ﷺ، ورضي الله عنها: " اللهم أمتعني بزوجي رسول الله، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية ".
1 / 17
قال: فقال النبي ﷺ: " لقد سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، لن يعجل شيء قبل حِلِّه، ولن يؤخر الله شيئًا بعد حِلِّه، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار، أو عذاب في القبر كان خيرًا أو أفضل " (١) .
المطلب الخامس
وقت الموت مجهول لنا
لا علم للعباد بالوقت الذي يحضر فيه الموت، وينزل بهم، فإن علم ذلك لله وحده، وهو واحد من مفاتيح الغيب التي استأثر الله بعلمها، قال تعالى: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ) [الأنعام: ٥٩]، وقال: (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [لقمان: ٣٤] .
وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: " مفاتيح الغيب خمس: (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) " [لقمان: ٣٤] (٢) .
وقد روى أحمد في مسنده، والبخاري في الأدب المفرد، وابن حبان والحاكم وقال صحيح، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، كما قال الشيخ ناصر الدين الألباني عن جماعة من الصحابة قالوا: قال رسول الله ﷺ: " إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له فيها حاجة " (٣) .
_________
(١) رواه مسلم في كتاب القدر من صحيحه: (٢٦٦٣)، وأحمد في المسند: (١/٣٩٠، ٤١٣، ٤٤٥) .
(٢) رواه البخاري، في كتاب التفسير: ٤٦٢٧.
(٣) سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني: ١٢٢١.
1 / 18
الاحتضار
المبحث الأول
حضُور ملائكة الموت
إذا حان الأجل وشارفت حياة الإنسان على المغيب أرس الله رسل الموت لسلِّ الروح المدبِّرة للجسد والمحركة له، (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ) [الأنعام: ٦١]، وملائكة الموت تأتي المؤمن في صورة حسنة جميلة، وتأتي الكافر والمنافق في صورة مخيفة، ففي حديث البراء بن عازب أن الرسول ﷺ قال: " إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط (١) من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مدَّ بصره، ثم يجيء ملك الموت ﵇، حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة (وفي رواية: المطمئنة) اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان. قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيِّ السقاء، فيأخذها ...
_________
(١) بفتح الحاء، ما يخلط من الطيب لأكفان الموتى وأجسامهم خاصة.
1 / 19
وإن العبد الكافر (وفي رواية الفاجر) إذا كان في انقطاع من الآخرة، وإقبال من الدنيا، نزل إليه من السماء ملائكة [غلاظ شداد] سود الوجوه، معهم المسوح (١) [من النار] فيجلسون منه مدَّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب. قال: فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود [الكثير الشعب] من الصوف المبلول، [فتقطع معها العروق والعصب] " (٢) .
وما يحدث للميت حال موته لا نشاهده ولا نراه، وإن كنا نرى آثاره، وقد حدثنا ربنا ﵎ عن حال المحتضر فقال: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ - وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ - وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ) [الواقعة: ٨٣-٨٥]: والمتحدث عنه في الآية الروح عندما تبلغ الحلقوم في حال الاحتضار، ومن حوله ينظرون إلى ما يعانيه من سكرات الموت، وإن كانوا لا يرون ملائكة الرحمن التي تسلُّ روحه (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ) [الواقعة: ٨٥] كما قال تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ) [الأنعام: ٦١] .
_________
(١) جمع المسح، بكسر الميم، هو ما يلبس من نسيج الشعر على البدن تقشفًا، وقهرًا للبدن.
(٢) جمع الشيخ ناصر الدين الألباني جميع روايات هذا الحديث، وساقه سياقًا واحدًا ضامًا إليه جميع الزوائد والفوائد التي وردت في جميع طرقه الثابتة في كتابه القيم: (أحكام الجنائز: ص٥٩)، وقد عزاه الشيخ إلى أبي داود (٢/٢٨١) والحاكم (١/٢٧-٤٠) والطيالسي (رقم ٧٥٣) وأحمد (٤/٢٨٧، ٢٨٨، ٢٩٥، ٢٩٦) والسياق له، والآجري في الشريعة (٣٦٧-٣٧٠) وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي، وهو كما قالا، وصححه ابن القيم في أعلام الموقعين (١/٢١٤) وتهذيب السنن (٤/٣٣٧)، ونقل فيه تصحيحه عن أبي نعيم وغيره.
1 / 20
وقال في الآية الأخرى: (كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ - وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ - وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ - وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ - إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ) [القيامة: ٢٦-٣٠] والتي تبلغ التراقي هي الروح، والتراقي جمع ترقوة وهي العظام التي بين ثغرة النحر والعانق.
وقد صرح الحديث بأن ملك الموت يبشر المؤمن بالمغفرة من الله والرضوان، ويبشر الكافر أو الفاجر بسخط الله وغضبه، وهذا قد صرحت به نصوص كثيرة في كتاب الله، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ - نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ - نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ) [فصلت: ٣٠-٣٢] .
وهذا التنزُّل - كما قال طائفة من أئمة التفسير منهم مجاهد والسدي - إنما يكون حالة الاحتضار (١)، ولا شك أن الإنسان في حالة الاحتضار يكون في موقف صعب، يخاف فيه من المستقبل الآتي، كما يخاف على من خلَّف بعده، فتأتي الملائكة لتؤمنه مما يخاف ويحزن، وتُطَمئِنُ قلبه، وتقول له: لا تخف من المستقبل الآتي في البرزخ والآخرة، ولا تحزن على ما خلفت من أهل وولد أو دَيْنٍ، وتبشره بالبشرى العظيمة، (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت: ٣٠]، (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) [فصلت: ٣١]، وما دام العبد قد تولى الله وحده،
_________
(١) تفسير ابن كثير: (٦/١٧٤) .
1 / 21
فإن الله يتولاه دائمًا، وخاصة في المواقف الصعبة، ومن أشقها هذا الموقف، (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) [فصلت: ٣١] .
أما الكفرة الفجرة فإن الملائكة تتنزل عليهم بنقيض ذلك (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا) [النساء: ٩٧]، وقد نزلت هذه الآية كما أخرج البخاري عن ابن عباس في فريق أسلم، ولكنه لم يهاجر فأدركه الموت، أو قتل في صفوف الأعداء (١)، فإن الملائكة تقرِّع هؤلاء في حال الاحتضار وتوبخهم، وتبشرهم بالنار.
وقد حدثنا ربنا عن توفي الملائكة للكفرة في معركة بدر فقال: (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ - ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ) [الأنفال: ٥٠-٥١] .
قال ابن كثير في تفسير الآيات: " ولو ترى يا محمد حال توفي الملائكة أرواح الكفار لرأيت أمرًا عظيمًا فظيعًا منكرًا، إذ يضربون وجوههم وأدبارهم، ويقولون ذوقوا عذاب الحريق " (٢) .
وقد أشار المفسر المدقق العلامة ابن كثير إلى أن هذا وإن كان في وقعة بدر، ولكنه عام في حق كل كافر، ولهذا لم يخصصه تعالى بأهل بدر، بل قال: (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ..) (٣) .
_________
(١) تفسير ابن كثير: (٢/٣٦٩) .
(٢) تفسير ابن كثير: (٣/٣٣٥) .
(٣) تفسير ابن كثير: (٣/٣٣٥) .
1 / 22
وهذا الذي قاله ابن كثير صحيح يدل عليه أكثر من آية في كتاب الله تعالى، كقوله: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ) [الأعراف: ٣٧]، وقوله: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل: ٢٨]، وقوله (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ - فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ) [محمد: ٢٥-٢٧] .
1 / 23
سكرات الموت
للموت سكرات يلاقيها كل إنسان حين الاحتضار، كما قال تعالى: (وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ق: ١٩]، وسكرات الموت كرباته وغمراته، قال الراغب في مفرداته: " السكر حالة تعرض بين المرء وعقله، وأكثر ما تستعمل في الشراب المسكر، ويطلق في الغضب والعشق والألم والنعاس والغشي الناشيء عن الألم وهو المراد هنا " (١) .
وقد عانى الرسول ﷺ من هذه السكرات، ففي مرض موته صلوات الله وسلامه عليه كان بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء، فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه، ويقول: " لا إله إلا الله، إن للموت سكرات " (٢) .
وتقول عائشة ﵂ في مرض رسول الله ﷺ: " ما رأيت الوجع على أحد أشدَّ منه على رسول الله ﷺ " (٣) وقد دخلت عائشة ﵂ على أبيها أبي بكر ﵁ في مرض موته، فلما ثقل عليه، تمثلت بقول الشاعر:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ××× إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدر
_________
(١) فتح الباري: (١١/٣٦٢) .
(٢) هذا الحديث أخرجه البخاري عن عائشة في كتاب الرقاق، باب سكرات الموت، فتح الباري: (١١/٣٦١) ورقمه: ٦٥١٠.
(٣) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي، انظر جامع الأصول: (١١/٦٩) .
1 / 24
فكشف عن وجهه، وقال ﵁، ليس كذلك، ولكن قولي: (وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (١) [ق: ١٩] .
ولا شك أن الكافر والفاجر يعانيان من الموت أكثر مما يعاني منه المؤمن، فقد سقنا طرفًا من حديث البراء بن عازب وفيه: " أن روح الفاجر والكافر تفرق في جسده عندما يقول له ملك الموت: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، وأنه ينتزعها كما ينتزع السفود الكثير الشعب من الصوف المبلول، فتقطع معها العروق والعصب ".
ووصف لنا القرآن الكريم الشدة التي يعاني منها الكفرة (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) [الأنعام: ٩٣] .
وهذا الذي وصفته الآية يَحْدُثُ - كما يقول ابن كثير - إذا بشر ملائكة العذاب الكافر بالعذاب والنكال والأغلال والسلاسل والجحيم والحميم وغضب الرحمن، فتفرق روحه في جسده وتعصي وتأبي الخروج، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم قائلين: (أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ) [الأنعام: ٩٣]، وقد فسر ابن كثير بسط الملائكة أيديهم في قوله: (وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ) [الأنعام: ٩٣] بالضرب، ومعنى الآية هنا
_________
(١) رواه ابن أبي الدنيا، وقد قال ابن كثير في تفسيره: (٦/٤٠١) بعد سياقه له: لهذا الأثر طرق كثيرة.
1 / 25
كمعناها في قوله: (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي) [المائدة: ٢٨] وقوله: (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ) [الممتحنة: ٢] وقد يُحدِّث العقلاء في حال الاحتضار عما يعانونه من شدة الموت وسكراته، وممن حدَّث بهذا عمرو بن العاص فعندما حضرته الوفاة، قال له ابنه: يا أبتاه! إنك لتقول: يا ليتني ألقى رجلًا عاقلًا لبيبًا عند نزول الموت حتى يصف لي ما يجد، وأنت ذلك الرجل، فصف لي، فقال: يا بني، والله كأن جنبي في تخت، وكأني أتنفس من سمّ إبرة، وكأن غصن شوك يجذب من قدمي إلى هامتي، ثم أنشأ يقول:
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ××× في تلال الجبال أرعى الوعولا (١)
الذي يخفف عنه سكرات الموت:
أخبرنا الرسول ﷺ أن الشهيد الذي يسقط في المعركة تخفف عنه سكرات الموت، فقد روى أبو هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: " الشهيد لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألم القرصة " رواه الترمذي والنسائي والدارمي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب (٢) .
_________
(١) التذكرة، للقرطبي: ص١٩.
(٢) مشكاة المصابيح: (٢/٣٥٨) ورقم الحديث: (٣٨٣٦)، وقال محقق المشكاة: إسناده حسن.
1 / 26
تمنّي الإنسان الرجعَة عند الاحتضار
إذا نزل الموت بالإنسان تمنى العودة إلى الدنيا، فإن كان كافرًا لعله يسلم، وإن كان عاصيًا فلعله يتوب (حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ - لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون: ٩٩-١٠٠]، والإيمان لا يقبل إذا حضر الموت، والتوبة لا تنفع إذا غرغر العبد، (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا - وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [النساء: ١٧-١٨]، وقد ساق الحافظ ابن كثير من الأحاديث ما يدل على أن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " رواه الترمذي وابن ماجة (١)، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب، ولكن شرط التوبة والإخلاص والصدق، وقد لا يتمكن المرء من التوبة في تلك الأهوال، فعلى المرء أن يسارع بالتوبة قبل حلول الأجل:
قدم لنفسك توبة مرجوة ××× قبل الممات وقبل حبس الألسن
بادر بها غلق النفوس فإنها ××× ذخر وغنم للمنيب المحسن
_________
(١) تفسير ابن كثير: (٣/٢٢٤) .
1 / 27
فرَح المؤمن بلقَاء رَبّه
إذا جاءت ملائكة الرحمن العبد المؤمن بالبشرى من الله ظهر عليه الفرح والسرور، أما الكافر والفاجر فإنه يظهر عليه الضيق والحزن والتعب، ومن ثم فإن العبد المؤمن في حال الاحتضار يشتاق إلى لقاء الله، والعبد الكافر أو الفاجر يكره لقاء الله تعالى، فقد روى أنس بن مالك، عن عبادة بن الصامت، عن النبي ﷺ أنه قال: " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت عائشة أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت، قال: ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حُضِر بُشِّر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله، وكر الله لقاءه " (١) ولذلك فإن العبد الصالح يطالب حامليه بالإسراع به إلى القبر شوقًا منه إلى النعيم، بينما العبد الطالح ينادي بالويل من المصير الذاهب إليه، ففي صحيح البخاري وسنن النسائي عن أبي سعيد الخدري ﵁، قال: قال رسول الله ﷺ: " إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها: يا ويلها أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمع الإنسان لصعق " (٢) .
_________
(١) رواه البخاري: كتاب الرقاق، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. ورقمه: ٦٥٠٧.
(٢) رواه البخاري، كتاب الجنائز، قول الميت وهو على الجنازة: قدموني، ورقمه: ١٣١٦، ورواه النسائي في كتاب الجنائز، باب السرعة في الجنازة: (٤/٤١) .
1 / 28
حضور الشيطان عند المَوت
إذا حضر الموت كان الشيطان حريصًا على الإنسان حتى لا يفلت منه، ففي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال: " إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه، حتى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت من أحدكم اللقمة، فليمط ما كان بها من أذى، ثم ليأكلها، ولا يدعها للشيطان، فإذا فرغ فليعلق أصابعه، فإنه لا يدري في أي طعامه تكون البركة ".
وقد ذكر علماؤنا أن الشيطان يأتي الإنسان في تلك اللحظات الحرجة في صورة أبيه أو أمه أو غيرهم ممن هو شفيق عليه ناصح له، ويدعوه إلى اتباع اليهودية أو النصرانية أو غيرها من المبادئ المعارضة للإسلام، فهناك يزيغ الله من كتبت له الشقاوة (١)، وهو معنى قوله تعالى: (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران: ٨] .
وقد حدث عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل قال: حضرت وفاة أبي أحمد، وبيدي خرقة لأشد لحييه، فكان يغرق، ثم يفيق، ويقول بيده: لا بعد، لا بعد، فعل هذا مرارًا، فقلت له: يا أبت أي شيء يبدو منك؟ قال: إن الشيطان قائم بحذائي عاض على أنامله، يقول: يا أحمد فتني، وأنا أقول: لا بعد، لا بعد، حتى أموت (٢) .
_________
(١) انظر تذكرة القرطبي: ٣٣.
(٢) التذكرة للقرطبي: ٣٤.
1 / 29
وقال القرطبي: سمعت شيخنا الإمام أبا العباس أحمد بن عمر القرطبي، يقول: حضرت أخا شيخنا أبي جعفر أحمد بن محمد القرطبي بقرطبة، وقد احتضر، فقيل له: لا إله إلا الله، فكان يقول: لا، لا، فلما أفاق، ذكرنا له ذلك، فقال: أتاني شيطانان عن يميني وعن شمالي، يقول أحدهما: مت يهوديًا فإنه خير الأديان، والآخر يقول: مت نصرانيًا فإنه خير الأديان، فكنت أقول لهما: لا، لا.. " (١) .
ولكن هذا ليس لازمًا لكل أحد كما يقول ابن تيمية، بل من الناس من تعرض عليه الأديان قبل موته، ومنهم من لا تعرض عليه، وقد وقع ذلك لأقوام، وهذا كله من فتنة المحيا والممات التي أمرنا أن نستعيذ منها في صلاتنا (٢)، وقد ذكر الشيخ ابن تيمية أن الشيطان أحرص ما يكون على إغواء الإنسان وقت موته، لأنه وقت الحاجة، واستدل بالحديث الذي في الصحيح: " الأعمال بخواتيمها "، وقال ﷺ: " إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها "، ولهذا روي: " أن الشيطان أشد ما يكون على ابن آدم حين الموت، يقول لأعوانه: دونكم هذا فإنه إن فاتكم لن تظفروا به أبدًا " (٣) .
_________
(١) التذكرة للقرطبي: ٣٤.
(٢) مجموع الفتاوى: (٤/٢٥٥) .
(٣) مجموع الفتاوى: (٤/٢٥٦) .
1 / 30