فالمهم في الأطوار الدينية هو الحافز الدائم الذي لزم النوع الإنساني من أقدم عصوره، وهو الوجهة القويمة التي يسعى إليها ويقترب منها، ولا تزال بداهة الفطرة سابقة فيها لأشواط العقل في مضمار الفلسفة والتفكير ، وهذه هي معجزة الجهود الدينية عند الالتفات إليها وإنعام النظر فيها، فإن عقول الفلاسفة أقدر على التأمل من بداهة الجماعات، ولكن الذي رأيناه في تاريخ الفلسفة قديما وحديثا أنها أخذت من بداهة الجماعات آساسها المتينة، ولم ترتفع إلى ذروة أعلى من التي ترقى إليها الضمير بعقيدة التوحيد والتنزيه، ولا نفهم هذا عقلا إلا على اعتبار واحد، وهو أن هداية الله تأخذ بيد الإنسان خطوة فخطوة في هذا المرتقى الوعر، فيهتدي في كل مرحلة من مراحلها بمقدار.
لقد آمن الإنسان بالإله الواحد من طريق العقيدة قبل الميلاد بأكثر من عشرة قرون، ولكنه لم يعرف «السبب الأول» من طريق الفلسفة إلا حوالي القرن الرابع قبل الميلاد، وكان جل اعتماده في ذلك على الدين.
فمن الدين تلقى الفلاسفة فكرتهم عن الروح، ومن الدين تلقوا فكرتهم عن بطلان الظواهر المادية، ومنه تعلموا التفرقة بين العقل والمادة فتعلموا كيف ينفذون إلى ما وراء الحس ويوغلون في تصفية كنه الموجودات إلى أعماق لا تغوص فيها الأجسام وآفاق لا تدركها الأبصار.
وقد استعاروا من الأديان الأولى عقائد المؤمنين بها في تعليل أصول الكائنات والتنبؤ عن مصيرها بعد وفاء آجالها من الوجود، فقالوا: إن السماء والأرض خلقتا من الماء، وقالوا بالدورات الكونية التي تبدئ العالم وتعيده كرة أخرى على طويل الأدهار والآباد، وقالوا بالحساب والعقاب كما قال سابقوهم من المتدينين، وفهموا أن قدرة الله تخالف قدرة القوى المادية التي تعمل بالجهد والعناء، فتعلموا أن الله يخلق بالكلمة أو بالمشيئة فيفعل ما يريد، وأخذوا من الديانات القديمة صوابها وخطأها وحقائقها وأوهامها، ثم محصوها ومحضوها فلم يجاوزوا بالتمحيص والتمحيض آفاق الإيمان بوحدانية الله.
وإننا لنحسب أن الاهتداء إلى القوة الروحية أو قوة العقل هو أعلى ما ارتفع إليه فكر الإنسان وضميره، بإلهام الدين وبحث الفلسفة والعلوم، فليست القوة كثافة ولا مادة مجسمة للعينين واليدين، وإن القوة المادية نفسها حين تدخل في حساب العقل لهي أقرب إلى أن تقاس بالأرقام والتقديرات من أن تقاس بالثقل والضخامة، بل الثقل نفسه ليس هو إلا معنى من المعاني نسميه بالجاذبية ونقيسه بالتقديرات الرياضية.
ولهذا نستكبر على البادئين بهذه الفكرة المنزهة قبل عشرات القرون أنهم وثبوا إليها وثبة واحدة وقصدوا بها ما نقصده اليوم حين نتكلم في الفلسفة تارة ونتكلم في العلوم الطبيعية تارة أخرى.
ونتخذ من تطور هذه الفكرة مثالا للأساليب الإنسانية في الوصول إلى حقائق الأشياء، ودليلا على القاعدة التي نقررها لوزن الأطوار الدينية بميزانها الصحيح، وهي أن العبرة بالوجهة التي نبلغها لا بالدواعي التي تحركنا إلى تلك الوجهة، وإن قصد الإنسان لا يعبر تمام التعبير عن قصد القضاء الذي يسيره ويغريه بالعمل والاجتهاد.
فنحن نرجح أن العقل الذي خطر له أن الله يخلق بكلمة ولا يخلق بجهد من جهود الحركة المادية - قد استعار هذه الفكرة السامية من شيء رآه لا من شيء بحثه واستقصاه.
وأقرب هذه الأشياء المرئية إليه هي قدرة الساحر على التأثير بكلمة يقولها والسيطرة على الأجسام والأجرام الضخام بالهمهمة والتعزيم، وهي ضرب من الكلام.
والله أقدر من الساحر، فإذا قدر الساحر أن يحرك الصخور بكلمة ويكسر السلاح بكلمة، ويقتل العدو الشجاع بكلمة، فأولى بالخالق الأعظم أن يملك هذه القدرة ويملك ما هو أعظم منها وأدل على المضاء ونفاذ المشيئة، فلا جرم يشاء فيكون ما يشاء.
Halaman tidak diketahui