ولقد كانت هذه «الفترة» الخاطفة في سعة الأبد الأبيد دليلا حسنا على ما سيكون أو يرجى أن يكون؛ لأننا أيقنا بما أحصيناه فيها أن آلام الأحياء ليست بالآلام الجزاف على غير طائل، فهي وسيلة الارتقاء والانتقاء، وهي التفرقة التي لا تفرقة غيرها بين الفاضل والمفضول وبين المحمود والمذموم، وهي مزيج يذاق به طعم الحياة وبغيره لا يعرف لها طعم ولا مذاق.
فهذه المؤلمات في دنيانا لا تعوق العقل عن إدراك الإله القادر على كل شيء؛ لأننا لن ندرك صورة أخرى هي أقرب إلى عقولنا من هذه الصورة التي لا تناقض فيها، وهي تنفي التناقض الذي يواجه عقولنا من غيرها: تنفي تناقض القول بأن الله قادر على كل شيء ولا يخلق شيئا، وتنفي تناقض القول بأن الله لا مثيل له ويخلق إلها آخر يماثله بغير خلاف. •••
ومهما يبق من مشكلة السر - مع هذا التفسير أو بغير هذا التفسير - فالكون الذي يخلقه إله قادر على كل شيء وتديره حكمة تتعالى على العقول - أقرب إلى القبول من الإله المتطور عن المادة العمياء؛ لأنها موجودة منذ القدم على النحو الذي يخرج منها الآلهة، فلماذا تخرج منها الآلهة بعد دهور متتابعة؟ وكيف نقدر لزومها لإخراج الآلهة ومن هم دون الآلهة من الأحياء؟!
فهذه الآلهة المتطورة لن تثبت لنا بالبرهان المنطقي القاطع، ولن تثبت لنا بالتجربة العملية، ولن تثبت لنا بالإيمان؛ لأنها لا توافق طبيعة الإيمان .
وكل ما فيها أنها تخمين يلفقه الخيال ويلتمس له القرائن والشبهات من بعض الظواهر العلمية التي لا تستقر في تفسيراتها وتأويلاتها على حال.
ونحن نحاول أن نفهم «التطور» في كون غير محدود فلا نستطيع أن نفهمه ولا أن نقربه إلى المفهوم؛ لأن الكون «غير المحدود» لم يبدأ في زمن معلوم فيقال إنه يحتاج في تطوره إلى زمن معلوم، ولم يبدأ منقوصا من بعض صفاته وقواه فيقال إنه قد استتم هذه الصفات والقوى في طريق التطور والارتقاء، ولم يبدأ حركته في خط مستقيم فيتحرك من نقطة إلى ما بعدها في الزمان أو المكان، فكل تطور فيه فهو قول يحتاج إلى تصديق لا يحتاج إليه دين من الأديان.
وإذا تجاوزنا عن هذا فنحن لا نفهم التطور في الكون المادي إلا بالقياس إلى مخلوق ذي حياة، ثم بالقياس إلى حادث مقصود قبل وقوعه بأزمان.
فلماذا يكون الماء أرقى من الهيدروجين والأوكسيجين؟ لا يكون كذلك إلا إذا قدرنا أنه أنسب لتقويم بعض الأحياء؛ لأن السيولة ليست أرقى من «الغازية» وليست ممتنعة على الغازات، وإذا قيل إنها أجمل في منظرها فهو قول مشكوك فيه، ولن يكون الحكم فيه إلا لحي من الأحياء.
ولماذا تكون المشمومات والمنظورات والمسموعات أرقى من ذوات الحجوم والأشكال بلا رائحة ولا لون ولا صوت؟ لا تكون كذلك إلا إذا كانت الحياة هي معيار التطور والارتقاء بين جميع الموجودات، وكانت مقدورة على نوع من التقدير قبل ظهورها بأزمان.
ولماذا تكون الكواكب الدوارة أجمل من السديم المتوهج الهائم في أجواز الفضاء؟ إنها لا تكون كذلك إلا لأنها أصلح لمعيشة الحي في بعض أدوارها، وأجمل في النفوس والعيون.
Halaman tidak diketahui