ولا شك أن مذهب أينشتين عن الزمان والمكان كان له أثر كبير في وقوع هذا الخاطر في روع الفيلسوف، ولكن الأثر الأكبر ولا شك يرجع إلى مباحث العلوم الطبيعية في الحرارة والكهرباء، ولا سيما المباحث التي قررت أن ذرات المادة تتحول إلى إشعاع، فإذا كان الإشعاع هو أصل المادة وكان الإشعاع مجرد حركة فلا جرم يخطر للفيلسوف أن حدوث الحركة في الفضاء هو أصل المادة في صورتها الأولى، وأن حدوث الحركة في الفضاء هو بعبارة أخرى اتصال الزمان والمكان، لأن الزمان هو الحركة ووقع الحركة هو اتصالها بالمكان.
فإذا حدثت الحركة فذلك هو اتصال الزمان والمكان، وإذا وجدت الحركة وجد الإشعاع وتسلسلت الأشياء المادية من هذا الإشعاع.
وهي تبدو على درجات، فأدنى طبقات المادة - بعد صدورها من الفضاء والزمان - هي المادة ذات الخصائص الأولية وهي الحجم والشكل والعدد والحركة، ثم تعلوها طبقة الخصائص التي تترقى إلى اللون والصوت والرائحة ودرجة الحرارة، أو بعبارة أخرى إن الخصائص الأولية تدرك بجميع الحواس، وإن الخصائص التالية لها تحتاج إلى التخصيص فتدرك منها بإحدى الحواس، ولا تتم الخاصة للشيء إلا مع اتصاله بشيء آخر، كما يتم اللون مع اتصال الشيء بالنور، ويتم الصوت مع اتصال الشيء بالهواء، فلا بد له في هذه الحالة من بعض التركيب.
قال في كتابه المفصل «المكان والزمان والإله»:
ومن الناحية الأخرى إذا نحن استبدلنا كلمة النظام بكلمة المنظم لم نعد بذلك أن نسمي هذه الحقيقة الواقعة: وهي أن العالم يجري على نسق يخرج منه النظام، وفي وسعنا أن نسمي العالم الذي ندركه على هذا النحو «إلها»، وننسى - أو لعلنا بذلك نفسر - ذلك السرف أو ذلك التلف المنطويين في ذلك الإجراء، ولكن بأي معنى من المعاني يصلح إله كذلك الإله للعبادة؟ إنما يصلح للعبادة على معنى واحد، وهو أن نعود فندخل على فكرة النظام التي هي وصف لبعض الوقائع المقررة فكرة المنظم المدبر، وهو الرأي الذي سبقنا فأدحضناه .
والذي نرجو أن نصنعه هنا هو شيء أقرب إلى التواضع والاعتدال من ذاك وأدنى إلى السياق العلمي المطرد في بعض المسائل الأخرى، فلا نحاول تعريف الله مباشرة، بل نسأل أنفسنا: هل هناك محل في العالم للصفة الإلهية؟ ثم نمحص حقيقة ذلك الكائن الذي يتصف بتلك الصفة، ونرجع إلى الحاسة الدينية لكي يطابق ذلك الكائن صفات الإله الذي هو أهل للعبادة، فأين إذن محل الإله في مجرى الأشياء إن كان له محل على الإطلاق؟
في هذه المادة الشاملة التي تتولد من الفضاء والزمان لا يزال الكون يعرض انبثاقا بعد انبثاق لسلسلة من الكائنات المحدودة يتسم كل منها بخصائصه وصفاته، وأرفع هذه الكائنات المعروفة لدينا هو العقل أو الواعية، فالإله هو الكائن الذي يعلو على أعلى ما عرفناه.
ولما كان الزمان أبديا بغير انتهاء، وكان هو مصدر النماء والارتقاء، فليس في استطاعتنا أن نتخيله واقفا عند إخراج تلك الكائنات المحدودة التي تتسم بسمة العقل أو الواعية، ولا بد لنا من أن نرسل الفكر على الاتجاه الذي ترسمناه من تجارب الانبثاق السابقة التي تمخضت عن الصفة الرفيعة، فإن في الزمان والفضاء باعثا يدفع مخلوقاتهما إلى طبقة أرفع فأرفع كما دفع بها إلى الطبقة العاقلة أو الواعية، وليس في العقل ما يدعونا إلى الوقوف عند حد من الحدود لنقول إنه هو الحد الأقصى لما يبثه الزمان من الآن إلى أبد الآباد، بل يكرهنا الزمان نفسه على انتظار مولود آخر من مواليده، ومن ثم يسوغ لنا أن نتتبع سلسلة الصفات ونتخيل تلك الكائنات المحدودة التي سميناها بالملائكة وهي كائنات تستمتع بوجودها الملائكي ولكنها تتأمل العقل على نحو يعجز العقل عنه كما نرى العقل يتأمل ما دونه من مراتب الحياة والموجودات السفلى، وعلينا أن نسأل: كيف تكون العلاقة بين هذه الآلهة المحدودة المسماة بالملائكة وبين الإله الذي ليست له حدود.
فالإله إذن هو الطبقة المثالية التي تعلو على طبقة العقل الواعية والتي يتمخض الكون الآن ليخرجها من أطوائه، ونحن من وجهة الاستطراد الفكري على يقين من استجنان هذه الصفة في الكون وتهيئه لولادتها، ولكن ما هي يا ترى تلك الصفة الموعودة؟ إننا لا ندري؛ لأننا لا نقدر على التحلي بها ولا على تأملها، ولا تزال محاريبنا الإنسانية معدة لاستقبال ذلك الإله المجهول، ولا سبيل لنا أن نعرف ما هو ولا كيف تكون الإلهية وكيف يشعر الإله بوجوده إلا إذا أنعمنا بصفة الآلهة قبل ذاك.
إلى أن قال: فالإلهية صفة تتولى الصفات التي دونها من طبقة العقل الذي يقوم هو أيضا على ما دونه من صفات وينبثق عن ما تبلغ الكائنات مبلغا مقدورا من التركيب والتنسيق.
Halaman tidak diketahui