154

قلت: هذا سؤال غير يسير؛ لأننا نحن الفانين لن نرى إلا جانبا واحدا من الصورة الخالدة في فترة واحدة من الزمان، ومن يدرينا أن هذا السواد الذي يصادفنا هنا وهناك هو جزء لازم للصورة كلزوم النقوش الزاهية والخطوط البيضاء؟ وماذا تستطيع أن تصنع لو ملكت الأمر وتأتى لك أن تقذف بالشرور من الحياة؟ بغير الألم والخسارة ما الفرق بين الشجاع والجبان وبين الصبور والجزوع؟ وبغير الشر والسوء ما الفرق بين الهدى والضلالة وبين النبل والنذالة؟ وبغير الموت كيف تتفاضل النفوس وكيف تتعاقب الأجيال؟ وبغير المخالفة بينك وبين عناصر الطبيعة من حولك كيف يكون لك وجود مستقل عنها منفصل عن موافقاتها ومخالفاتها؟ وبغير الثمن كيف تغلو النفائس والأعلاق؟

قال صاحبي: أليس عجزا أن نشقى وفي الوسع ألا نشقى؟ أليس عيبا أن نقصر عن الكمال وفي الوسع أن نبلغ الكمال؟

قلت: وكيف يكون في الوسع أن يكمل المتعددون؟ إنما يكون الكمال للواحد الدائم الذي لا يزول.

قال صاحبي: قل ما شئت فليس الألم مما يطاق، وليس الألم من دلائل الخلود الرحيم.

قلت: على معنى واحد إن هذا لصحيح!

إنه لصحيح إذا كانت حياة الفرد هي نهاية النهايات وهي المقياس كل المقياس لما كان وما يكون، ولكن إذا كانت حياة الفرد عرضا من الأعراض في طويل الأزمان والآباد - فما قولك في بكاء الأطفال؟ إن الأطفال أول من يضحك لبكائهم حين يعبرون الطفولة، وإنهم أول من يمزح في أمر ذلك الشقاء، وليس أسعد الرجال أقلهم بكاء في بواكير الأيام.

يا صاحبي! هذا كون عظيم، هذا كل ما نعرف من العظم، وبالبصر أو بالبصيرة نظرنا حولنا لا نعرف العظم إلا من هذا الكون، ماذا وراء الكون العظيم مما نقيسه به أو نقيسه عليه؟ فإن لم نسعد به فالعيب في السعادة التي ننشدها، ولك أن تجزم بهذا قبل أن تجزم بأن العيب عيب الكون وعيب تدبيره وتصريفه وما يبديه وما يخفيه، ولك أن تنكر منه ما لا تعرف، ولكن ليس لك أن تزعم أنه منكر لأنه مجهول لديك.

ونحسب أننا نقابل الاعتراض على دلائل الحكمة المقصودة بما يرجح عليه إذا قابلناه بمثل هذا التذكير والتعقيب، ويكفي عندنا أن يكون برهان الإثبات أقوى من برهان الإنكار، فلسنا نغتر ببرهان من براهين العقل الإنساني حتى نزعم له أنه يستوعب الوجود الإلهي كل الاستيعاب، أو أننا نبلغ به مبلغ البراهين التي نقيمها على كل محدود في عالم المحسوس والمعقول؛ لأن وجود الله أكبر من ذرع العقول، وإنما نعطي العقل حقه حين نضع له البرهانين وندع له أن يوازن بينهما، وأن يطالب نفسه بدليل على الترجيح. •••

ويعتبر البرهان الثالث من براهين أهل الصناعة؛ لأنه مما يتداول بين الباحثين في المنطق والفلسفة الدينية ولا نسمع به كثيرا بين جمهرة المؤمنين الذين لا يطرقون أبواب هذه البحوث، وذلك هو برهان الاستعلاء والاستكمال أو برهان المثل الأعلى، ويسمى عندهم

The Ontological Argument .

Halaman tidak diketahui